جرّة الحقيقة أو الكتابة تحت شبح الغباء الصناعيّ
9
دقائق

كره سقراط الكتابة والكتب، وحذّر من أنها ستُدخل النسيان إلى نفوس المتعلّمين، إذ سيكفّ طلبة العلم عن تدريب ذاكرتهم معتمدين على الكتابة. في محاورة «فيدروس»، يحذّرنا سقراط من أخطار هذه التكنولوجيا الجديدة، وأنها ستنتج متعلّمين جَهلة، سيكفّون عن استعمال ذاكرتهم معتمدين على الكتابة والكتب، فيتذكرون من الخارج بفضل نقوش غريبة، لا من الداخل بفضل أنفسهم. سيستمعون إلى كثير من الأشياء من دون أن يتعلموا شيئاً، ويظنون أنفسهم عالِمين وهم في الواقع جاهلون. ثم في سخرية سيسأل تلميذه أفلاطون: ما الكتاب؟ تسأله فلا يجيب.

لذا حين قرّر تلميذه أفلاطون أن يكتب، اختار المحاورة شكلاً لكتبه التي وثّق فيها دروس أستاذه. لديك سؤال فتبحث عنه حتى تجده، فيجيبك الكتاب. ظنّ أفلاطون أنه تجاوز تحدّي معلّمه وصنع كتاباً تسأله فينطق، كتاب له صوتان، صوت يسأل وصوت يجيب.

لكن ما هو الكتاب حقاً؟

كتب أفلاطون في القرن الثالث قبل الميلاد، لكنّ الكتب آنذاك لم تكن كما نعرفها اليوم. لم يكن هناك ورق، بل بردى مصري سريع التلف. في الصين، كتبوا على ألواح البامبو، ما قاد الكتابة الصينية والآسيوية عموماً لتتطوّر رأسياً. أما في اليونان، فاستُخدم جلد الحيوانات ولحاء الأشجار، ولُفَّت في أسطوانات. لم يكن هناك كتاب بأوراق مطوية أو بغلاف. يذهب الباحث إلى مكتبة الإسكندرية بحثاً عن محاورة أفلاطون، فيجد لفائف مختلفة، بعضها مفقود وبعضها ضاع حبره، وجميع ما في المكتبة- كما كل الكتب- هي نصوص يتمّ تداولها بين نخبة من الحكام وموظّفي الجهاز الإداري، وقرّاء يقفون بين المؤسسة الدينية وصنائع العلوم التجريبية والخيميائية. وباستثناء ما حُفظ في المقابر أو في جرار مدفونة في نجع حمادي، لم يترك الزمن لنا منها إلا القليل. فالمواد والتكنولوجيا المستخدمة في الكتابة وحفظها كانت قصيرة العمر، مثل كل ما أنتجناه وننتجه.

ظهرَ الورق فتبعتْه البيروقراطية

في القرن الأوّل الميلادي، كان «تساي لون»، الموظف في الإمبراطورية الصينية، يعمل في خدمة أسرة «هان». كان يعاني باستمرار من نقص مواد الكتابة. فالحرير غالي الثمن والبردى مستورد. ترد الحكاية بصيغ متعددة، لكنّ جوهرها أشبه بقصيدة هايكو. نظر «تساي لون» بين يديه، وجد شبكة صيد ممزقة، بقايا من قماش الكتان، وقش الأرز ولحاء الشجر، طحن جميع المكوّنات ثمّ فردها وتركها في الماء تحت الشمس، وحين جفّت ظهرت صفائح رقيقة يمكن للريشة أن تترك أثراً عليها بسهولة.

قدّم هديّته إلى الإمبراطور الذي أمر بتطوير تلك الصناعة ونشرها في أرجاء الإمبراطورية مع الحفاظ على سرّيتها، واستخدامها في المكتبات وسجلات الإمبراطورية. فصار الورق أداة حكم وإدارة، رفع من قدرة الدولة على حفظ المعلومات والسجلات وتصنيفها وإدارتها. وبسبب هذه الثورة الإدارية والبيروقراطية، عُرف عهد أسرة «هان» بالعهد الذهبي، وفيه ظهرت ودُوِّنت الكونفوشية ومدوّنات التأريخ الصيني. وكانت الصين أول من استخدم العملات الورقية في القرن السادس، وتشكلت السمات الأساسية للهوية الصينية التي لا تزال عناصرها باقية حتى اليوم.

أعقب أسرة «هان» أسرة «جين» ثم فترة تعدّدت فيها المماليك حتى توحّدت تحت حكم أسرة «سوى» التي انتهى عصرها على يد الجنرال «لي يوان» عام 618 م.، والذي أسس لأسرة «تانغ». وفي عام 715 ستلتقي جيوش امبراطورية «تانغ» مع جيوش أبو جعفر المنصور، مؤسس الدولة العباسية، الذي سينتصر في معركة نهر طلاس، التي ستفتح بعدها أبواب آسيا للإمبراطورية العباسية، وينتشر الإسلام ودولته في آسيا. في تلك المعركة التي دامت خمسة أيام لكنّها تركت أثراً ممتدّاً لقرون، تعرّض 20 ألف جندي صيني للأسر، وتمّ نقل العمّال المَهَرة منهم إلى سمرقند، حيث بنوا أوّل مطحنة لصناعة الورق، ومنها انتشرت صناعة الورق والوراقين في كافة أرجاء الإمبراطورية الوليدة ونقلوها إلى أوروبا عبر الأندلس.

وفّرت صناعة الورق موادّ خاماً رخيصة للكتابة والتدوين. وزنها خفيف وعمرها أطول، ويمكن طيّ الآلاف منها ثم تجليدها لحمايتها، وبالتالي تسهيل نقلها. عمرها الافتراضي أطول من كل وسائط الكتابة والتدوين السابقة. 

مكّن انتشار الكتابة بهذا الشكل الدولة العباسية من بناء جهاز إداري معقّد. آلاف الموظفين وآلاف الرسائل الإدارية والأوامر باتت تسافر على طرق الإمبراطورية كلّ يوم، وتطوّر وتوسّع معها نظام اقتصادي قائم على المكاتبة والأوقاف، وسلطة الورقة والعقد. لم يكتفوا بالكتب وحسب، بل سهّل هذا من إطلاق حركة الترجمة، فتُرجِمت العلوم التطبيقية مثل الزراعة والصناعة والأرقام والحساب من الهند، وعلوم الكلام والفلسفة من اليونانية واللاتينية.

راهب ينسخ مخطوطة

الحقيقة لا تأتي إلى العالم عاريةً

لكنّ الكتاب كورق مطويٍّ وله غلاف هو أقدم من أبو جعفر المنصور ومطاحن سمرقند.

نعرف ذلك لأنه في عام 1945، وأثناء عمل محمد علي السمان في تسميد أرضه في نجع حمادي، ارتطم فأسُه بجرّة فخارية مدفونة، فأخرج الجرّة، ليجد داخلها مجموعة مخطوطات وكتب، حملها إلى منزله، وقرر مع أخيه التجارة في هذا الكنز، فبدأ في إخراج الكتب وبيعها لتجار الآثار. في تلك الأثناء، قامت أم محمد علي السمان بحرق بعض تلك الكتب والمخطوطات، حيث كانت تستخدم الورق في إشعال فرن الخبيز. وحين بدأ ظهور المخطوطات في سوق الآثار، بدأ الباحثون في الاهتمام والبحث عنها. في ذلك الوقت، تورّط الأخوان في مشكلة ثأر، فهربا من قريتهما وتركا المخطوطات في رعاية متعلّم في القرية شعرَ بدوره أنها على قدر كبير من الأهمية، فقام بتسليم ما في حوزته، بينما خاض د. باهور لبيب، مدير المتحف القبطي، حملةً لجمع وثائق مكتبة نجع حمادي وحفظها في المتحف القبطي.

جيمس روبنسون، محرّر أول ترجمة ظهرت لمكتبة نجع حمادي إلى الإنجليزية، يوضح في مقدمة الكتاب أن تلك المكتبة تعود، على الأرجح، إلى دير القديس باخوم القريب من نجع حمادي، ومعظم الكتب والمخطوطات تعود إلى القرن الأول والثاني الميلادي، وإن كان هناك كتب ونصوص منسوخة عن نصوص أقدم تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. لكن في عام 367 م.، وبعد اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية وتحوّلها لديانة سلطة، أصدر البابا أثناسيوس الأول قراراً بمنع تداول الكتب غير المعتمدة كنسيّاً، ولسبب ما، هناك طالب أو كاتب قرّر أن يخالف أوامر السلطة، وبدلاً من حرق الكتب وضعها في جرّة ودفنها.

تحتوي المكتبة على نصوص متنوعة تعكس الأفكار الهرمسية والغنوصية التي سادت في مصر قبل المسيحية. فعلى عكس سقراط الكاره للكتب، تشير العديد من نصوص مكتبة نجع حمادي إلى أهميتها وقدسيتها، في نسخة إنجيل فيليب الحقيقة لا تأتي في العالم عارية، بل في رموز وصور يحفظها الكتاب لمن له القدرة على فتحها.

صحيح أن الكتب حفظت الحقائق والأكاذيب معاً، لكنها أيضاً صارت منذ القرن الثالث الميلادي أداة السلطة الدينية والسياسية لفرض كتاب واحد غالباً ما يرفض أيّ معانٍ أخرى للحقيقة غير تلك الموجودة بين ضفّتيه، وفي ظله يجب أن تسير بقية الكتب، وإلا كان مصيرها نار جهنم. تحولت الأديان من طقوس وممارسات إلى كتاب مقدس واحد مركزي، وأحكمت الكنيسة في أوروبا قبضتها على النشر، فارضةً رقابةً صارمة على كل ما يُكتب وينسخ.

ثمّ جاء مطلع القرن الخامس عشر، حين بدأ يوهان غوتنبرغ يحلم بطريقة سريعة لطباعة الكتب بجودة عالية. ابتكر حروفاً معدنية متحرّكة وحبراً أكثر لزوجةً يصلح للطباعة على الورق بدل الأحبار المائية. لكنه، مثل أي صاحب شركة ناشئة، أثقلته التكاليف، فاقترض من يوهان فوست مقابل حصة من الأرباح. تأخر عن مواعيده، فرفع فوست عليه دعوى وربحها، ليخسر غوتنبرغ مطبعته ويخرج من اللعبة مفلساً. إنها الدراما الإنسانية المتكرّرة لقصّة تطوّر التكنولوجيا وبؤس المخترعين والمبتكرين: المستثمر يحصد الأرباح، والمخترع، إن كان محظوظاً، لا ينال إلا خلود الاسم.

محمد علي السمان

ملك البيست سيللر

أطلقت الطباعة ثورةً جديدة: انتشرت الكتب، ووَجدت أفكارٌ مضادة للنظام الكنسي والإقطاعي طريقها إلى القرّاء. صار الكاتب الأوروبي يحصل على دخل من بيع كتبه لجمهور من المتعلمين والتجار، بينما ظل كتّاب المشرق يعتمدون على عطايا السلطان أو مناصب إدارية في الدولة كحالة السيوطي أو ابن اياس ابن الأمير المملوكي، فظلّت الكلمة أسيرة السلطة وحدودها، بينما كانت ماكينة الطباعة تنشرها في كل أوروبا ومستعمراتها.

في عام 1580، عاد ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا إلي بلده في شبه الجزيرة الأسبانية بعد سنوات قضاها جنديّاً في الجيش الإسباني خاض خلالها حروباً طويلة ضد العثمانيين، وانتهت بأسره خمس سنوات في الجزائر حتى تم تحريره بدفع فدية من 500 عملة ذهبية. حاول البحث عن وظيفة مرموقة في البلاط الملكي أو الجهاز الإداري للدولة، لكنّه تعرض لنكبات متتالية، فاتّجه لكتابة المسرح. فشلت مسرحياته الأولى، فاتجه لكتابة القصص والروايات، فلم تحقق أعماله نجاحاً. وكانت تنتشر في ذلك الوقت مبيعات نوع من الأدب الشعبي تُعرَف باسم روايات الفرسان، وفي لحظة هي مزيج من غضبه الشخصي على هذه الكتب التافهة، وعلى حياته التي ضاعت في حروب بلا طائل، قرّر كتابة رواية تُحاكي بشكل ساخر روايات الفرسان، فكتب رواية «دون كيخوته دي لا مانتشا» التي نُشرت لأول مرة عام 1605 باسمه شهرته «ميغيل دي ثيربانتس».

لم تكن سيرة الفارس المغامر محاكاةً ساخرة لروايات الفرسان، بل شرارة  أطلقت فنًّا جديدًا هو ما سيُعرف لاحقاً بالرواية الحديثة. سرد وكتابة مختلفة عن الأسطورة والملحمة والحكايات الشعبية، فهذه الأشكال السردية هي نصوص جماعية، بلا مؤلف، لكن تحكمها وحدة السرد والصوت. أما الرواية، فلها كاتب واحد لكن داخلها أصوات متعددة، ولا تعد القارئ بالخلاص أو الحكمة بل وعدته بالمتعة، بالضحك، بالمغامرة، بالحوار الحيّ، بسرد يقلب الواقع في مرآة السخرية. 

كان دون كيخوته أوّل كتاب يُباع على نطاق واسع بوصفه متعةً حديثة، نصًّا يتهافت عليه القراء لا لطقس ديني ولا لسلطة سياسية، بل لأنه يُمتِعهم. فانتشرت بسرعة وصارت، بلغتنا اليوم، أوّل بيست سيلر. مارتين بوشنير في كتابه «العالم المكتوب» (The Written World) يؤكّد أنّه في العام الأول طبعت أكثر من 13 ألف نسخة من دون كيخوته، وترجمت إلى لغات أوروبية أخرى، فظهرت مهنة المترجم الأدبي، ووظّف الناشرون محرّرين  ليهيِّئوا النصوص لجمهور جديد، ويدعموا المؤلف نفسه في إعادة كتابة جزء ثانٍ، كما حدث مع ثربانتس حين أصدر الجزء الثاني سنة 1615.

شهدت القرون الخمسة الأخيرة تطوّر الكتاب كما نعرفه اليوم، سلعة في منظومة تتكون من كاتب، ناشر، وقارئ. البعض يرى أن هذا التحول وإتاحة الكتب، هو ما خلق «دمقرطة» المعرفة، حيث لم تعد مُخبّأة في مكتبة المعبد أو الكنيسة، بل أصبح الكتاب سلعة يتداولها الناس من كل الطبقات، خالقاً بذلك مساحة لبناء الهويات الجماعية المتخيلة لا على أساس الدم، أو القبيلة أو الولاء للملك، بل على أساس قومي وأحيانا فكري، فكانت الخطوة التالية ولادة مفهوم الدول القومية، والجماعة التي يجمعها الولاء والقسم لكتاب واحد وهو الدستور.

جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وعواصف صاخبة فوقه، وقفزات تكنولوجية واسعة. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أمريكا حين ابتكر توماس اديسون جهاز الفوتوغراف، كان يسير في كل مكان مبشراً بأن عصر الكتب المطبوعة انتهى، وأن الكتب في المستقبل ستكون مسجلة على أسطوانات، ستكون كتباً مسموعة. انهمك كتاب نهاية القرن التاسع عشر في أميركا بتسجيل كتبهم على أسطوانات، ومع الوقت تطورت الكتب الصوتية في صيغ متعددة حتى أصبحت تطبيقات يمكنك تحميلها على هاتفك المحمول والاستماع لآلاف الكتب. لكن مع ذلك، لم يختفِ الكتاب المطبوع، ولم يكفّ الكُتاب عن الكتابة والحلم بطباعة كتابهم على ورق. سيتكرّر الأمر ذاته في التسعينات. سيقدّم الإنترنت نفسه كوسيط أعلى كفاءة لحفظ المعلومات وتدوين الحكايات ونقلها وتبادلها، المكتبات والكتب نفسها أصبحت إلكترونية، والكتابة لم تعد تحتاج إلى ورقة وقلم، بل باتت مؤخرا لا تحتاج حتى إلى كيبورد، تتحدث مع نموذج الذكاء الصناعي الموجود على موبايلك، تهلوس له بأيّ أفكار، فيصيغها لك بأسلوب أدونيس، تقرأه فتعجب بعبقريتك، وتذهب للنوم وأنت تحلم بنوبل.

دون كيخوتي دي لا مانتشا

من الكتب ومكتباتها إلى «الداتا سنتر»

في قصة «مكتبة بابل»، تخيّل بورخيس مكتبةً هي الكون، وكوناً هو المكتبة.

تمتدّ المكتبة إلى ما لا نهاية، وهي تتكون من قاعات سداسية الأضلع، كل ضلع يحمل أرففاً تصطفّ عليها الكتب، ما عدا جدارين داخل كل واحد منهما باب يؤدي إلى قاعة أخرى مماثلة في الشكل والحجم، وفيها باب يقود لقاعة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية. الكتب في المكتب مكتوبة بلغات ماتت ولغات ربما تكون حية ولغات ستأتي في المستقبل، الأمر الذي يجعل محاولة قراءة كتاب واحد في المكتب تتطلب صبراً وعملاً لفكّ شفراتها ورموزها. 

قرأت القصة أول مرة منذ عشرين عاماً، ثم أعدت قراءتها بالإنجليزية مؤخراً. يكرّس بورخيس معظم النص لوصف نظام المكتبة وتبويبها ومتاهاتها، حتى تصبح صورة للكون، كأن الكون مكتبة والمكتبة كون. لكن هذه المرّة وأنا أقرأ وصفه، كان كل ما رأيته أمامي صورةً  لمراكز البيانات الحديثة، «الداتا سنتر»، حيث يتسابق المستثمرون لبناء قاعات متماثلة الشكل، تحتوي على أرفف تمتد حتى نهاية البصر، كي تُخزَّن وتُرفع فيها كل المعلومات الممكنة، كل ما يمكن جمعه وتسجيله، لتُستخدم لاحقاً في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

الآن نواجه شبحاً جديداً، لا نعرف بعد هل يكون تحدّياً واهياً كتحدّي أسطوانات إديسون وكتابه المسموع، أم سيكون تحدّياً ثورياً قد يحوّل صناعة النشر، ومعها الأدب وفنونه، تحولاً جذرياً مثل مطبعة جوتنبرج المأسوف عليها.

المستقبل موجود الآن، فقد أصبح هناك دور نشر كاملة لا تنشر إلا كتباً محرّرة ومكتوبة بالذكاء الصناعي. في العالم العربي بدأت تظهر كتب مترجمة باستخدام الذكاء الصناعي، ومواقع إخبارية كاملة ليست إلا برامج ذكاء صناعي تعيد تدوير الأخبار والعناوين الرائجة لجذب الترافيك. باسكال بورنيت في كتابه  (IRREPLACEABLE: The Art of Standing Out in the Age of Artificial Intelligence)، يرى أنّه خلال بضع سنوات سندخل عالمًا آخر فيما يخصّ صناعة الترفيه والتثقيف والتعليم، مثل إديسون ومهاويس التكنولوجيا، ويتوقع مستقبلاً تختفي فيه الحاجة لإنتاج الكتب أو الأفلام، وحتى إن وجدت فستكون مكلفةً جداً غير منافسة مع ما ينتجه الـAI. ستكون الفنون البشرية، ومنها الكتب وقراءتها للمتعة، ممارسات فنية قديمة، موجودة لكنها على الهامش كفنّ الأوبرا. ففي المستقبل، لن يضطرّ المرء لقراءة شكسبير، بل ستجلس أمام شاشتك وتطلب من نموذج الذكاء الصناعي «هاملت» لشكسبير، فيقوم بإنتاجها وتقديمها لك في وسيط وشكل ترفيهيّ مناسب لك على حسب ذوقك الذي يعرفه وعلى الأرجح ساهم في تشكيله، حيث لديه في «الداتا سنتر» كل صورك ومعلوماتك من ساعة ولادتك حتى طلبك مشاهدة «هاملت»، ووفق تلك المعلومات سيقوم بتخليق معالجة سينمائية مثلاً، يؤدّي فيه محمد سعد دور هاملت وجومانا مراد دور أوفيليا والإخراج بستايل عباس كيارستامي، مع موسيقى لهانز زيمر وأشعار تركي الشيخ.


أخيراً، تحقّق حلم سقراط الذي كان يسأل الكتاب فلا يجيبه. يمكنه الآن أن يسأل نماذج توليد اللغة فتجيبه.

لكن لنتذكر أنّ كلّ هذه الأنماط والنماذج ستكون كذلك موضوعاً لممارسات السلطة، ومساحة تنافس بينها. مثلاً، تابعت منذ عام ترند ظهر فجأة على تويتر يشتكي فيه مستخدمون سعوديون من أن نموذج «شات جي.بي.تي» لا يتقن اللهجة السعودية ويصرّ على التحدّث مع السعوديّين بالمصرية، حتى وإن طالبوه بالتحدث بالسعودية. منذ بضعة أسابيع، أطلقت الحكومة السعودية، إحدى أكثر الحكومات العربية جديةً في مجال الاستثمار وتطوير واستخدام الذكاء الصناعي، نموذج «هيومن». وحسب الدعاية، هو نموذج الذكاء الصناعي العربي الذي تمّ تدريبه على مختلف اللهجات العربية، وبالطبع مثلما لدى نماذج الذكاء الصناعي الأميركية خطوط حمراء حين تسألها عن إسرائيل، والصينية خطوط حمراء حين تسألها عن تايوان، فالنموذج العربي لديه أيضاً محاذيره. «هيومن» متاح حالياً داخل المملكة العربية السعودية فقط، لكنّ الخطة هي التوسّع في بقية الدول العربية حيث يستهدف 400 مليون متحدّث باللغة العربية.

إنّ حالة «السداح والمداح» التي نحياها الآن فيما يخص الانترنت وانتشار رخص خدمات الذكاء الصناعي، لن تستمر طويلاً. فالإنترنت يتّجه نحو البلقنة، كلّ وحدة سياسية تفرض قوانينها وحدود المسموح والمحجوب فيها. وقريباً، ستفرض كذلك نماذج الذكاء الصناعي المتاحة لمواطنيها، والتي ستتحول بدورها مع الوقت إلى مساعد شخصي، كأن تتحدث على التليفون وتتفق على لقاء صديقك على القهوة، فيقوم النموذج بتسجيل الموعد على أجندتك الشخصية التي بالطبع لن تكون شخصية بل مجرد كتاب في قاعدة بيانات لا نهائية مثل ملايين الكتب.

حيواتنا نفسها أصبحت داتا، والداتا هي سجلّ العصر وكتابه، والهدف الآن حصر كلّ هذه الكتب في مكتبة واحدة في يد سلطة واحدة، تسألها فتجيب، تنطق بما صار الناس يؤمنون به، وهو أن الحقيقة الموضوعية المكتوبة بلغة سليمة مفصلة على ذوقهم. أمّا حقيقة الأمر، فهي أنّ رقابةً جديدةً تقوم بالجمع والحصر والمسح، وفي المستقبل سيكون التحكّم فيما يُطبَع ويُنشَر وفي الحقيقة نفسها. وفي لحظة، ستختفي الكتب والمراجع والإنترنت كما عرفناه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ولن يصبح أمامنا سوى نماذج توليد اللغة التي تتحكم فيها الشركات والحكومات.

ربما حان الوقت، كما فعل طالب دير القديس باخوم في نجع حمادي، أن نجمع ما نكتبه ونضعه في جرّة وندفنه تحت الأرض، علَّ أحدهم، بعد أن ينقضي هذا المستقبل الذكيّ المشرق، يعثر على حقيقة من الماضي لم تُنتجها مكتبات الغباء الصناعي ومتاهاته.

رسوم: حسّان زهرالدين 
جرّة الحقيقة أو الكتابة تحت شبح الغباء الصناعيّ

اخترنا لك

راية التكنوصهونية ترتفع فوق جثة المستقبل، فما العمل؟
دراسة

راية التكنوصهونية ترتفع فوق جثة المستقبل، فما العمل؟

أحمد ناجي
أنا أَخْرى
فكرة

أنا أَخْرى

أحمد ناجي

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟