جميعاً تعرّضنا للتحرّش
هبة، 17 عاماً، من الناجيات الطرابلسيات
النظام الأبوي هو الإيديولوجية الأكثر تغلغلاً في حضارتنا
كيت ميليت، منظّرة نسوية
أصوات الناجيات
تعيدنا أصوات الناجيات الطرابلسيات وشهاداتهن الى النظر في أبويّة المدينة وقوتها المفرطة في القمع والمحو والتمييز.
تلك الأبويّة المؤبّدة كانت غير قابلة قبل زمن الثورة اللبنانية وحراكها للنقد والمواجهة، إلّا في حدود دنيا، وكان مسكوتاً عن مجازرها ضد النساء والمثليين والعابرين والعابرات جندرياً. لكنّ الأبويّة باتت اليوم على تماس مع المساءلة والتفكيك، وبأصوات يانعة وشابة، ومن قلب المدرسة الرسمية، وخارج المؤسساتية والجمعياتية والتنشيط النسوي المنظّم.
فلم تعد تخشى هذه الأصوات آليات القمع ولا المنظومة البطريركية المتوحشة وتهديداتها في استخدام السلطة البوليسية والقضائية والمحسوبيات وإشهار الفضح والوصم الإجتماعيين في وجوهها…
الأبويّة الطاحنة
هذه الأبويّة الطاحنة، المتشعّبة تاريخياً والقائمة على التهميش والهيمنة الرجالية على الخطاب العام والمساحة العامة، هي التي مكّنت سامر مولوي من تتبّع ضحاياه والتمادي في التحرش بهم/ن (وفق شهادات بنات وصبيان)، والتفاخر بسلطته وواسطته وذكوريته السامة. هذه الهيمنة هي التي أخضعت النساء وحصرتهن في الدور الإنجابي وشكّكت لاحقاً بشهادات الضحايا منهن، حين يتعلق الأمر بالتحرش والإغتصاب (الزوجي، وفي الشارع وفي العمل..)، وحمت المرتكيبين من الرجال، كما حال مدير ثانوية جورج صراف، محي الدين حداد.
ترتبط الأبويّة الطرابلسية ارتباطاً وثيقاً بفرض القوة الرجالية على الخطاب العام. وجاءت موجات التديّن مع تياراتها السلفية والوهابية والأخونجية، لتزيد من تماسك هذه الأبويّة وتحوّل معها أجساد النساء الى أشباح غير مرئية، والى ضحايا عنف وتحرّش واغتصاب وقتل ومعس معنوي ونفسي، أدّت إلى إلغائهن من مشهد المدينة وجعلهنّ متواريات.
هذا المشهد كسره الاجتماع الأهلي في ساحة النور، في ثورة تشرين.
نسويّة شابة
خرجت النسويّة الطرابلسية الشابة من وعي لم نكن نحن، أولاد الجيل الأكبر، على تماس معه. بشجاعة، تعيد هذه النسويّة تفكيك هذا الخطاب المعمّم والمكرّس لشتى أنواع التمييز الجندري والعنف الممنهج ضد النساء والمثليين والمثليات والعابرين والعابرات جندرياً. يتخالط هذا الوعي بتوجّه عملاني واحتجاجي، يشير إلى أنساق التغيير الطرابلسي من خلال جيل يواجه أخطبوطاً مخيفاً، يمتدّ في قلب المدينة وشرايينها.
وما دلالات الاحتجاج المقام على هضبة أبو سمرا، حيث الثانوية التي يدرّس فيها المولوي (المطرود من ثانويتين سابقاً للأسباب نفسها)، إلّا تعبيراً جليلاً عن مكوّنات هذا التثوير النسوي الذي شارك فيه كلا الجنسين، وفي معاني هذا التثوير ضد الأبويّة الدينية.
هذه الأبويّة التي حوّلت المدينة، منذ قدوم الإسلاميين المدعومين من الوهابية السعودية والسلفية الكويتية والقطرية والجمعيات الإخونجية، إلى هضبة إسلامية، تمارس المحو والإلغاء للنساء من المشهد العام.
هذا الاشتباك الاحتجاجي من قلب هذه الهضبة، له دلالة كبرى، عن انتهاء مفاعيل الخوف من السلطة الدينية. فأصوات البنات والنساء الطرابلسيات والشبان جنباً الى جنب في وجه أخطبوط الأبوية، تجعلنا أمام محطة محدّثة من تاريخ المدينة الثوري، في طريقها إلى إعادة قراءة المجال العام وحدوده، وتشكيل وعي مجتمعي شاب. وعي شاب في نظرته إلى أجساده ورغباته وجنسانيته وحقوقه، وقبل كل شيء في النظر إلى الجسد بكونه أداة سياسية في معركة الفرد مع الأبويّة ومنظومة الاستبداد، وحمايته من الاضطهاد والعنف والقمع والتحرّش.
هذه أصوات لا بدّ أن تؤسّس لما لم نعرفه نحن، العالقين بين جيلَيْن.