الزمان: شباط 1983
المكان: الجزائر
مدّة العرض: 77 دقيقة
وقف الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش ليلقي قصيدته «مديح الظلّ العالي» في افتتاح المجلس الوطني الفلسطيني، بحضور ياسر عرفات وقادة الفصائل الفلسطينيّة، إلى جانبهم الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، وحشد من الوفود الحزبية والرسمية العربية. كانت اللحظة استثنائيّةً، إذ جاءت بعد خروج المقاومة الفلسطينيّة من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي، وما تلا ذلك من مجزرة فظيعة في صبرا وشاتيلا.
قدّم الشاعرَ آنذاك الفنّانُ المصريُّ نور الشريف. وقبل تلاوة القصيدة، وقف ياسر عرفات ليقول: عظمة هذه الثورة أنها ليست بندقية. فلو كانت بندقية فقط، لكانت قاطعة طريق. أمّا الشاعر، فشرع يلقي قصيدته التي اشتهرت لاحقاً بمقطع حاصر حصارك لا مفرّ/ سقطتْ ذراعك فالتقطها/ واضرب عدوّك لا مفرُّ/ وسقطتُ قربك فالتقطني/ واضرب عدوّك بي/ فأنت الآن حرٌّ وحرٌّ وحرُّ.
قوطع الشاعر بالتصفيق أكثر من مرّة، وهو يمضي في قصيدته ممجِّداً صورة الفلسطينيّ كفدائيٍّ الذي يرتقي بظلّه العالي ليصبح بمثابة إلهٍ يدعونا الشاعر كي نقرأ باسمه.
ينتهي المشهد بالعناق بين «القائد العامّ» أبو عمّار و«الشاعر العامّ» محمود درويش، وتمضي من بعدها الثورة الفلسطينيّة إلى فصول جديدة من رحلة الحرب والسلام.
الزمان: تموز 2025
المكان: بيروت
مدّة العرض: 106 دقائق
بيروت ليست خارجةً من اجتياح، لكن لم تمضِ إلا أشهر على الحرب الإسرائيليّة المدمِّرة على لبنان. ما زال صوت «الدرون» يملأ سماء العاصمة اللبنانية، ولا تزال الإبادة مستمرّةً في غزّة منذ أكثر من عام ونصف.
رضا وشاتيلا، ابنا عمّ من مخيّم عين الحلوة في جنوب لبنان، يصلان كمهاجرَيْن غير نظاميَّيْن إلى أثينا حيث يخوضان كلّ السُّبُل لتحقيق حلمهما بالهجرة إلى ألمانيا. بعدما جرّبا الكذب والسرقة والاستغلال والجنس مقابل المال، لا يجدان أمامهما حلّاً إلا الادّعاء بأنّهما مهرِّبان، فيخدعان مجموعة من اللاجئين السوريّين الحالمين بالهجرة إلى إيطاليا. وفي سبيل تحقيق مخطّطهما، يستعينان بأصدقاء فلسطينيّين لهما، بينهم «أبو الحبّ» وهو مدمن وتاجر هيروين كان يحلم ذات يوم بأن يكون شاعراً.
هذا هو مختصر القصّة في فيلم «إلى عالم مجهول» لمهدي فليفل. لكن، في ذروة الفيلم، وفيما يقبع اللاجئون السوريّون المخدوعون داخل غرفةٍ مكمومي الأفواه، يبدأ «أبو الحبّ» في الغرفة الأخرى بتلاوة مقطع «حاصر حصارك لا مفرُّ» من قصيدة «مديح الظلّ العالي» لمحمود درويش. ومع كلمات القصيدة، تنتقل الكاميرا إلى وجوه الخاطفين الفلسطينيّين والمخطوفين السوريّين، في مشهد قد يبدو للوهلة الأولى مجرّد محاكاة ساخرة للقصيدة، تُظهر المفارقة بين الأمل رغم الجراح كما بدا في الجزائر، والانحطاط الذي وصل إليه الواقع الفلسطينيّ كما يبدو الآن في أثينا. لكن سرعان ما يتبيّن أنّ لعبة فليفل ليست في إقامة هذه المقابلة السهلة، بل في صناعة فيلم يبدو في الحقيقة وكأنّه إعادة كتابة لقصيدة درويش نفسها.
لا يسعى فليفل في عمليّة إعادة الكتابة إلى تحنيط قصيدة درويش، ولا إلى دفنها باعتبارها تنتمي إلى زمن مضى. فزمنُ التيه الفلسطينيّ لم يمضِ، في غزّة كما في المخيّمات وسائر الشتات. وكذلك زمن «كم كنتَ وحدك»، وزمن الخيارات المقفلة. لكنّ القصيدة لا تُلقى الآن أمام القادة والوفود العربية، بل أمام اللاجئين الذين دفعوا ثمن قرارات أولئك القادة بعدما كان آباؤهم وأجدادهم قد دفعوا ثمن النكبة. و«الظلّ العالي» ليس شخصيّةً أسطوريّةً رسمها درويش، بل هو اللاجئ بلحمه ودمه، الباحث عن حياة أفضل. «الفدائيّ» الجديد هو بطل مضادّ، يَستغِلّ ويُستغَلّ من أجل البقاء في عالم لا مكان فيه للرقّة. حتى الطفل الآتي وحيداً من غزّة على متن أحد قوارب الهجرة غير النظامية، يتحدّث كرجل لا يحتاج عطفاً. الرقيق الوحيد في الفيلم هو رضا الذي يُصوَّر منذ البداية كشخصية من خارج هذا العالم. كأنّ فيه علّةً اسمها الحساسيّة الفائضة، بحسب كلام أمّه عنه. لا يسخر فليفل من قصيدة درويش، بل يكرّس أهميّتها الاستثنائيّة، واستحالة إهمالها أو الحفاظ على نَظمها في الآن نفسه، ما يجعل إعادة كتابتها- بتلك المفارقات والأوجاع والبؤس- شرطاً لاستمراريّتها.
حين سُئل الموسيقيّ ماكس ريختر لماذا أعاد تأليف «الفصول الأربعة» لفيفالدي، قال إنّه يريد استعادة شغفه بتلك المقطوعة الجميلة بعدما كان قد فقدَه، لشدّة ما تمّ استهلاكها حتّى بات سماعُها مزعجاً. أعاد ريختر قراءة «الفصول الأربعة» من لحظة الحاضر، وأعاد تقديمها للآخرين كما قرأها اليوم. أزال منها عظمة الباروك وروحه الدراميّة ليجعلها أكثر مخاطَبةً للمشاعر وأكثر تعبيراً عن تخبّطات الذات الإنسانية. وفي سبيل ذلك، استخدم تقنيات معاصرة في التأليف الموسيقي، فأدخل الإلكترونيات والأسلوب المينيماليّ. فليفل فعل شيئاً شبيهاً حين جعل القصيدة فيلماً، وأدخل إليه «الأكشن»، وأزال هالات البطولة عن شخصيّاته، كي نستعيد علاقتنا بتلك القصيدة التي باتت أكثر تعبيراً عن الذات الإنسانيّة للّاجئ الفلسطينيّ. بمعنىً ما، أزال فليفل «الباروكيّة» عن قصيدة درويش، ليعود إليها مستسلماً لصواب قلبه.