نقد ثقافة
خليل الحاج علي

إلياس خوري «كأنّه نائم» 

كأنّه حيٌّ في المدينة

3 أيلول 2025
إحدى المشاركات في التجهيز الفني «كأنّه نائم»، الذي يقيمه مهرجان «أيلول» طيلة هذا الشهر في «زيكو هاوس»، في بيروت. 

بعد خمس وعشرين سنةً من الانقطاع، يعود مهرجان «أيلول» إلى بيروت، لكن هذه المرة في سياق مختلف. فالمهرجان الذي انطلق في التسعينيات، بمبادرة من الباحثة والأستاذة في الأنثروبولوجيا البصرية، باسكال فغالي، والكاتب والناقد إلياس خوري، كان منصة للرقص والمسرح والندوات. أمّا هذا العام، فيستعاد المهرجان تزامناً مع الذكرى الأولى لرحيل إلياس خوري (1948–2024)، ليكون هو بطل نسخته الجديدة وفعاليته الوحيدة. 

في «زيكو هاوس»، سبيرز، يُقدَّم التجهيز الفني بعنوان «كأنّه نائم» (طيلة شهر أيلول، من الثلاثاء حتى الأحد، 2:30- 6:30 مساءً)، مقتبس من عنوان روايته «كأنّها نائمة»، وهو مشروع جماعي من تنفيذ شريف علام وماغالي داندولو وباسكال فغالي وغابرييل فرنيني وروي فيليبس ورشا رومية ومحمد سويد وكرمة طعمة ورجوة طعمة. 

يفتح هذا العمل مساحة يلتقي فيها الحلم بالواقع، والذاكرة بالفقد. في هذا الفضاء (زيكو هاوس)، تستيقظ شخصيات إلياس خوري من رواياته، كأن غيابه أيقظها لتتمثل إلينا من جديد، فنسمع أصواتها تتردّد داخل مبنى بيروتي قديم، مكوّن من ثلاث طبقات. عودة الشخصيات، لا تنفصل عن حضور مؤلفها نفسه؛ فالتجهيز الفني يستدعي إلياس خوري بدوره، ويجعله حاضراً من خلال الأفكار التي تجسّدها الشخصيات. وبهذا، يحقّق العمل توافقًا بين الاثنين: حضور الكاتب وعودة شخصياته معاً، في مدينة، شكّلت الحرب فيها منطلقاً لسؤاله حول مصير الإنسان ومعنى وجوده.


أصوات وأحلام: شخصيات خوري تولد من جديد 

من خارج المدينة، إلى عالم الشخصيات الداخلي، حيث تتحول الأحلام إلى تجربة فنية حيّة.

من البوابة الحديدية لـ «زيكو هاوس»، تبدأ التجربة. الصوت أوّلُ ما يستقبلنا، مقاطع مسجّلة تتردّد بلا انقطاع. ذاكرة الصوت مخيفة... حين يتفتق صوتُ شخصٍ بعيد أو ميت من الذاكرة، وتستمع إليه بأذنيّ رأسك، فإنّه قد يصيبك بالذهول. تخترق نصوص إلياس الأذن. الأصوات تتكلم بضمير «الأنا». تنبعث الشخصية من جديد، وتسكن اللحظة. المؤدّون حافظوا على أصالة الأداء، لا تنميق في النطق، لا صقل في اللغة، الكلمات تُرمى كما كُتبت، خشنة، حادّة، هشّة أحياناً. تتكوّن الشخصية من خلال الصوت والنص، فيرى المتلقي بـ«عين الخيال»، شخوصاً، وينصت إليها جيداً. قصص تتشابك، تتداخل، لا بداية ولا نهاية، كأنها تنسج نسيجاً واحداً.

الصعود يبدأ. طابقاً تلو الآخر، المونولوجات تتكاثف، تتصاعد، بدءاً مع عسعسة الضوء، حتى عتمة الليل. البيت محجوب عن الضوءِ، والهواءِ وأيضاً. رطوبة المدينة خانقة، وتبعث فينا شيئاً من الكلوستروفوبيا. نرى الخارج من خلال لوحات مرسومة، وتغطي النوافذ. كلُّ الأدوات تم تكريسها لتضيف شعوراً، حالةً، أو ربما سؤالاً فينا. كل جدار أضيق. كلُّ خطوة أعمق نحو عالم خوري وشخوصه المضطربة بفعل الحرب والموت والحب. 

نصل إلى قلب البيت، فتشتد الموسيقى، بعد خطوات متعبة من الصعود على الدرج الإسمنتي، ونعيد التفكير في أبنية بيروت، مَن مات فيها ومَن احتمى بفعل الحرب؟ أيّ إسمنت مجبول بالدماء، وكيف لهذه المدينة أن تشهد كل هذا الموت، والاضطرابات؟ أسئلة تعيد إلينا ما يورده خوري في «الوجوه البيضاء»، حيث يقول تعوّدت على بيروت خلال الحرب، والذي تعوّد على بيروت لا يستطيع أن يعيش في أية مدينة أخرى. لأنّه لا يستطيع أن يتخيّل المدن بلا حرب.

يخلق التجهيز الفني «كأنّه نائم» فضاءً حسيًا متكاملًا، نتيجة عمل تشاركي يجمع الموسيقى والتصوير والأثاث والتسجيل الصوتي، مقدّماً تجربة فنية متعددة الأبعاد.

نصل إلى قلب البيت، أو هكذا نتخيله على الأقل. تختلط الأنفاس اللاهثة بالهواجس والأحلام. الأدوات السينوغرافية والقطع تشكل عالماً غير مفهوم، ومبعثراً. لكنه يبعث شيئاً من التأمّل. فوضى عارمة، تشبه الأحلام. سوريالية بحتة. عالم منزوع عنه معالم الواقعية. رمال، أحجار، أنابيب، طاولات، مراوح بحجم كفّ اليد... العالم مدهش. لقد دخلنا إلى عالم «الحلم»، نستذكر ما سمعناه حول ميليا في رواية «كأنّها نائمة»: قرّرت أن تفتح عينيها لأنَّها أحست بالموت. والموت لا يأتي إلاّ على شكل منام طويل لا ينتهي. لا نستفيق. بل، نستفيض، وننهل أكثر من كثافة ما نراه في هذا التجهيز الفنيّ. 

يشكل البحر في «كأنّه نائم» تيمةً أساسيةً، ويحضر من خلال: الصوت والصورة والكلمات.

في قلب البيت، خيالات ظلال موحشة للغاية، للأعشاب، والنباتات، وخيوط القطن، والحبال. البحر يستوقفنا، نهمد أمام الصورة الفوتوغرافية لشاطئ فيه عشب. لبرهة، نشعر أن الموت سينال منّا، وأننا لن ننجو. هكذا تنبّأت لنا إحدى شخصيات رواية «مملكة الغرباء»: اكتشفت أبسط الأشياء وأكثرها بداهةً وسذاجةً، اكتشفت أنني سأموت، لأن الإنسان يموت. الموت هو مصيرنا.

تتصاعد حدّة الموسيقى، تصخب، وتهدأ، وتُدمج معها الأصوات المسجّلة. لا ننكفئ، بل نتابع الاستكشاف داخل صرح البيت الذي يشبه دثاراً يحمينا من الرصاص في الخارج. هكذا يخيّل إلينا. المطبخ مكان بارد، وحشة تنسلّ إلينا من خلال سكون شاعري كثيف، يبعث رغبة الشخصيات بالموت حيث أنّ المستقبل واضح بالنسبة إلينا، إنّه الموت.  

نعبر صوب الحمام، الرمل يغطي السيراميك، مشهد غريب يثير الارتباك والريبة، ويخلق تجربة بصرية رمزية ثقيلة. هل ستخرج الشخصيات علينا الآن؟ هل عبرت هذه الغرف يوماً؟ هل سكنت بيوتًا تشبه بيوت بيروت الممزّقة، حيث الإسمنت جدار للخوف وملجأ للهروب من الرصاص؟ وها هي بيروت، كومة من الحجارة والشمس تلمع على البنايات الإسمنتية... تقول إحدى شخصيات رواية «الوجوه البيضاء».  

بعد رحلة التنقّل بين عوالم الشخصيات، أحلامها، وأفكار إلياس خوري، في هذا التجهيز الفني، يمكن للمشارك أن يرصد عالماً مشحوناً ومضطرباً ومزدوجاً بين الحياة والموت، عالم يشبه اضطراب واقعنا الراهن، حيث يحيط الموت بنا من كل جانب. وبالتالي، تتيح التجربة إمكانية تفاعل كل مشارك/ة مع العمل الفني بطريقة فريدة، مما يجعل التجربة شخصية وحسية في آنٍ واحد.


قطعٌ مبعثرةٌ، معانٍ متشابكةٌ: قراءة سيميولوجية في «كأنّه نائم»

على الرغم من دقة التنسيق والإحكام في التجهيز الفني «كأنّه نائم»، تصعب عملية التلقي، أحياناً، وقد يظهر للبعض بأن كل ما يراه، ويسمعه، ويشعر به، غير متجانس.

رموز متفرقة تُعيد التأويل وتفتح طبقات من المعنى، تعكس عالم إلياس خوري وأفكاره في «كأنّه نائم».

تتوزع مكوّنات التجهيز الفني بين ثلاثة أبعاد: البصرية، كالمرآة، الأرجوحة، السنابل، المياه، القساطر، الأقفاص الحديدية، الطاولات، الزهور المجففة، وقطع الأثاث، بالإضافة إلى الإضاءة الباهتة والفاقعة التي تخلق التوتر؛ السمعية، وتشمل النصوص المسجّلة، الموسيقى التي تولّد العاطفة، وأصوات البحر والحشرات وصخب المدينة؛ والحسية، التي تتجلى في حركات التنقل داخل الفضاء… تشكل نظماً من الرموز المتشابكة، ويصعب تفكيكها خلال عملية التلقي الآنيّة.

وعليه، لا تقتصر هذه المكوّنات على دلالتها المباشرة، بل تحمل هذه الرموز/ العلامات السيميولوجية، وفقاً لكير إيلام في كتابه «سيمياء المسرح والدراما» (The Semiotics of Theatre and Drama, 1980)، وجهين: الدالّ، المادة المرئية أمام المتلقي، والمدلول، الشعور الجماعي الذي يستحضره الجمهور. من هذا المنظور، تعكس هذه الرموز برمّتها، مفهوماً غير مغلق. بل، مفتوح على أفكار عدّة، أبرزها: المدينة تتفتت وتزول صوب البحر… العيش فيها مستحيل، والعيش بدونها لا يُحتمل، والمصير فيها محتوم: الموت.

تتجاوز دلالات الدخول إلى المطبخ في «كأنّه نائم» كفضاء معاش، وتشكل تجربة ضاغطة تعكس قتامة داخلية.

هكذا، يُفهم العرض كتراتب هرمي ديناميكي للعناصر، وفق منظّري السيميولوجيا (مدرسة براغ) وتتشكّل تجربة متكاملة تجمع بين الحسية، الانطباعية، والمعنى الرمزي، وتصبح الرموز المستخدمة، وسيطاً بين عالم الشخصيات وواقعنا الراهن، بين التأمل الفردي والبعد الجماعي، وبين الحياة والموت. 

كل ذلك يولّد طبقات من الشعور، وينشط الحواس، ويحفّز الخيال، بما ينسجم مع هدف الفن المعاصر في طرح السؤال قبل تقديم الإجابة، ويفتح مسارات لتأويل مفاهيم الحياة والموت، الحلم والواقع، والذاكرة والفقد، التي ينطلق منها التجهيز الفني «كأنّه نائم». 


بين المضمون والشكل: تساوقٌ فنّي وممارسة فكرية وفنية متكاملة

وراء الرموز والدلالات التي يلتقطها المشاركون أثناء زيارتهم للتجهيز الفني في «زيكو هاوس»، يتجسّد الأسلوب الرمزي لإلياس خوري الأدبي. فالكثافة البصرية التي نراها في التجهيز الفني، مستمدة من مؤلفاته، وهكذا يتكامل الشكل مع المضمون، ويفتح مسارات للتأويل والتحليل والتفكيك. 

فالرموز في مؤلفات إلياس خوري، مكّنت الفنانين/ات المشاركين، من إعادة صياغة مفاهيمه داخل قالب جمالي رمزي متناسق. على سبيل المثال، توضح مقابلة أجراها الصحافي الأمريكي توم زويلنر، في مجلة   Los Angeles Review of Books، مع إلياس خوري، أن ظهور الذباب المتكرر، في روايته «اسمي آدم»، ليس مصادفة، بل استعارة لاضطراب الجو في مدينة اللد بعد المجزرة. وبهذا تظهر رمزية الذاكرة بوصفها أداة مركزية لفهم النكبة وتجاربها الإنسانية. 

فضاء «زيكو هاوس» تمّ تطويعه وفق أفكار التجهيز الفني، ليصبح عملاً ذا جمالية متقنة.

لا تقتصر هذه الرمزية على «اسمي آدم» وحسب، بل تمتد إلى أعمال خوري الأخرى، مثل شخصية ميليا في «كأنها نائمة» ، التي تشكل محوراً أساسياً في هذا التجهيز الفني. أثناء التجوال في الطوابق، تكشف اللغة والحكاية عن طبقات من الحلم؛ فالشخصية ميليا تمتلك ثلاثة مستويات من الأحلام: الأول جمع أغراض لتكوين رؤى تريدها، الثاني تكوين أحلام أعمق وأكثر رمزية، والثالث العمل على أحلام تنبؤية، بحسب ما توضح باسكال فغالي التي أشرفت على التجهيز الفني. وهنا، غالباً ما تشير الأدوات والرموز التنبؤ بالمصير المحتوم: وهو الموت. بهذه الطريقة، يصبح التجهيز الفني رحلة حسية وفكرية متكاملة، تنسجم فيها الرمزية الأدبية مع التجربة الحيّة، مما يجعلنا نسأل: ماذا لو رأى إلياس خوري أفكاره تتحوّل إلى هذا التجسيد الإبداعي؟


توزيع المناشير: تجربة لاستعادة النصّ في فضائه الأوّل
 

شراء مؤلفات إلياس خوري متاح كجزء من التجربة التي يخوضها المشارك في التجهيز الفني.

بعد الرحلة التي يخوضها المتلقي في عوالم إلياس خوري، تنفتح أمامه إمكانية الإطلاع على مؤلفات الكاتب واقتنائها. توضح مديرة مهرجان «أيلول»، باسكال فغالي، أنّ المهرجان، الذي غاب لأكثر من عقدين، اختار أن يستأنف حضوره من خلال تجربة إلياس خوري الأدبية. تسعة أشهر من جمع النصوص واللقاءات مع فنانين وفنانات من مختلف الحقول، أفضت إلى هذا التجهيز الفني الذي يستند إلى ثمانية كتب من مؤلفات الراحل، وهي «الوجود البيضاء» (1981)، «رحلة غاندي الصغير» (1998)، «مملكة الغرباء» (1993)، «مجمع الأسرار» (1994)، «يالو» (2002)، «كأنها نائمة» (2013)، «أولاد الغيتو- اسمي آدم» (2016)، «أولاد الغيتو 2: نجمة البحر» (2018). 

إنّ كل بداية تأخذنا إلى بداية جديدة… من نص «كأنّه نائم».

تقول فغالي إن المهرجان يضع خوري في قلب الفعل الثقافي، ليحضر طيفه بيننا اليوم. بهذا المعنى، يصبح المهرجان حدثاً محدوداً في حجمه، لكنه مكثّف الدلالة، يضع فكر إلياس خوري في سياق فنّي معاصر، يتمثل في تحويل المؤلفات الأدبية إلى تجهيز فني، مما يجعل التجربة غنيّة وأصيلة. 

يوفّر المهرجان وفعاليته فرصةً للتعرّف المباشر إلى فكر خوري وأدبه. وفي هذا الإطار، جرى طبع حوالي 16 ألف منشور، تضمّنت مقتطفات من نصوصه عن الحب والحرب والموت، موقعة باسم إلياس خوري، والكتب التي تم اقتباس الجملة منها. وجرى توزيعها في الأرجاء التي كان يتردد فيها خوري. ويحصل عليها أي مشارك في المهرجان. هذه المنشورات لا تؤدي وظيفة تعريفية وحسب، بل تُقارب فعلاً فنّياً يعيد حضور خوري في المدينة التي طالما تساءل عن بقائه فيها، وتعيد الفكر إلى فضائه الأول، أي إلى المدينة التي أنجبته، وأنتج معها خطابها الثقافي. في الختام، تنتهي الرحلة داخل التجهيز الفني «كأنّه نائم»، لكن الحكايات لا تنتهي... ينتهي الراوي، لكن إلياس لم يكن الراوي هذه المرة، بل كان الحكاية. 

تصوير: روى فيليبس

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً