تعليق الحرب على لبنان
سامر فرنجية

الأيّام الأخيرة قبل الحرب

26 أيلول 2024

الثلاثاء: يوم «البايجرز»

المشهد كان غريبًا، مخيفًا. لكنّ الغرابة فاقت الخوف. هذا كان الأربعاء. أناس يتفجّرون في اللحظة ذاتها، أجسادهم تشبه القنابل المتنقلة، لا تشبهها، بل باتت قنابل متنقلة. كل هذا بلا سبب ظاهر. على الأقل، هذا ما بدا في حينها. تطلّب الأمر بضع ساعات لنبدأ بفهم ما جرى، إن كان هناك خرق وتفخيخ. لكنّ كل هذا لم يجعل ما حدث أسهل على الفهم. ثقتنا في نسيج هذا العالم، في تكوينه، في صلابته، كانت قد تفتّتت في تمام الساعة الثالثة والنصف، ولا شيء سيرمّمها. أجساد تنفجر في اللحظة ذاتها من دون سبب، دخلنا عالمًا جديدًا، لا نفهم بعد قواعده وطرق عمله. عالمًا خطيرًا وبشعًا وقاتماً. 


الأربعاء بعد الظهر: يوم اللاسلكي - التكرار

في اللحظة نفسها التي فقدنا فيها علاقتنا بالعالم، كان الأطباء يبترون أعضاء ويقتلعون أعيناً ويحاولون تخييط ما تبقى من الأجساد المرمية من حولهم. لم ينتهِ الأطباء من معالجة أجساد هذا النهار حتى جاء الانفجار الثاني. في اليوم الثاني، تفجّرت أيضاً أجساد الآلاف من الناس في اللحظة ذاتها، على معظم الأراضي اللبنانية أيضًا. وفي هذه الـ«أيضًا»، في هذا التكرار الدموي، في سهولة هذا التكرار غير المبالي بأي عواقب أو صعوبات، يكمن الرعب الفعلي. التكرار هو دلالة الضعف الذي نعيشه. التكرار يعني أنّ ما جرى ليس حادثًا معزولًا، وقد يتكرّر في أي وقت. وسيتكرّر. 


الأربعاء مساءً: لحظة اكتشاف التكنولوجيا

لم يكن هذان اليومان مجرّد لحظة انكشاف أمني أو سياسي. كانا لحظة انكشاف «تقني»، لحظة فهمنا أنّ التحوّل التكنولوجي لم يعد خيالًا بل بات ملموسًا. بالنسبة للبعض في الغرب، التقدّم التكنولوجي يعني قدرة متزايدة على الاستهلاك، أو على العلاج الطبي، أو على تنظيم الحياة من خلال الذكاء الاصطناعي. أمّا عندنا، فهو يعني قدرة متزايدة على استهدافنا وقتلنا وتطويعنا. للتكنولوجيا وجهان كما اكتشفنا مرارا وتكرارا، ولكن لا نريد أن نصدّق، لأنّنا لا نريد أن نقبل أنّنا لسنا إلّا أدوات في هذه البنية التقنية. الإشارات كانت موجودة. منذ حرب العراق التي كانت واجهة للإبداعات التقنية العسكرية الأميركية، والتكنولوجيا تتسلل إلى واقعنا العسكري والسياسي. وكانت صورها في كل مكان، من صور الصواريخ الدقيقة إلى مشاهد الساتلايت وصولًا الآن إلى الدرونز. اعتقدنا أن هذا خارج عن السياسة، ويمكن أن نستمر بالخطابات ذاتها، وكأنّ التقنية ما زالت خاضعة لسيطرة السياسة. واعتقدنا أنه ربّما يمكننا الهروب منها من خلال العودة إلى التقنيات البدائية. هكذا اعتقد حزب الله، لكنّ هذا الخيار لم يحمِه. 


الخميس: الخطاب

بدا خطاب نصرالله، يوم الخميس، وكأنّه ولأول مرة يؤكّد حالة جماعية من الإحساس بالضعف. بالشكل، جاء كلامه من عصر آخر، من عصر كان الردّ فيه ممكناً، من عصر كان قد انتهى قبل يومين، في يوم «البايجرز». أصلاً، لم يعذّب نصرالله نفسه بردّ يدرك أنّه لن يقوم به، بل نبّه من عدوان برّي يدرك أنّ خصمه لن يحتاج إليه. بعد سنوات من وجود «المقاومة» في عالم ما فوق البلاد، «تلبنَنَتْ» لتظهر وكأنّها من عندنا، وليس من عندهم، هم المتفوّقين تقنيًا. شعب، مقاومة، جيش، دولة… باتوا جميعًا يشبهون بعضهم بعضاً في وجه وحش التقنية، أجسام متقطعة ومهترئة. 


الجمعة: الاغتيال

ربّما كان من الممكن تخطّي كل هذا، لولا الاغتيال الذي تلا المجزرتين، اغتيال قضى على قيادات قوة الرضوان، والتي كان التفاوض قائماً حول أماكن تواجدها. بعد هذه اللحظة، زال الشكّ بأنّ هناك مخططًا، وأن ضربات الثلاثاء والأربعاء كانت تمهيدًا لهجوم أكبر. لم يعد هناك من شكّ بأنّنا دخلنا مرحلة جديدة، عنوانها هذا الفارق التقني المهول الذي يحوّل البلاد إلى بنك واسع للأهداف. ومع زوال الصدمة، بدأ البحث عن تفسير لما جرى، تفسير أخذ شكل مقولة أن «إيران باعت الحزب». ليس واضحًا ما إذا كان هذا التفسير شماتة بالحزب أو استدعاء لكي لا تبيع إيران الحزب أو مراسم استقبال الحزب إلى كنفه اللبناني، المكوَّن من أطراف «باعتهم» الدول المجاورة في الماضي. بعد هذا النهار، فهمنا أنّ البلاد باتت مجرّد ساحة. 


ليلة السبت: آخر أيام قواعد الاشتباك

ردّ حزب الله بما اعتبره تصعيدًا خطيرًا. لكنّنا لم نلاحظ الردّ. فرغم تصعيده، جاء الردّ ضائعًا وسط القصف الإسرائيلي الذي بدأ يتخطى كل الخطوط الحمر. كان في هذا الردّ شيء من النوستالجيا لآخر أيام قواعد اشتباك حرب تموز. نوستالجيا أو حتى استدعاء لكي نعود إلى هذا الزمن الجميل، زمن توازن الرعب. جاء الردّ كما وضّح حزب الله، على عدوان الأسبوع الفائت، لكنّ الإسرائيليين كانوا قد بدأوا هجومهم الجديد. بدأت الحرب الشاملة، ونحن ما زلنا نتساءل ما إذا كانت هناك حرب قادمة، وما إذا كان حزب الله يحاول تفاديها. 


إبتداءً من الإثنين: الحرب الشاملة

بدأ قصف لم نشهده من قبل، موجة تلو الأخرى. آلاف الغارات في أقل من نهار. بدأ عدد الضحايا يتصاعد، أرقام لم نشهدها من قبل. ظهرت مجددًا صور النزوح. عدنا إلى عالم التغطية المباشرة والخبر العاجل، هذا العالم الذي يسكنه القاطنون في مناطق الأزمات فقط. لم يعد مطلوباً منا أن نصدّق أنّ الحرب قد بدأت، فهي لا تبالي بالوقت الذي نحتاجه لكي نفهم أنّها قد بدأت. ابتداءً من تلك اللحظة، بتنا نعرف ما سيجري، يمكن أن نتوقع تسلسل الكلمات: قصف، مجزرة، كلام عن وقف إطلاق نار، قصف مجددًا، نقاشات داخلية حول الحرب، مجزرة جديدة، زيارات مكوكية لمبعوث غربي، قصف، بوادر صفقة، مجزرة، مشاكل في مناطق النزوح، مجزرة كبيرة، قصف جديد، لحظة انعدام حظوظ الصفقة، قصف، الصفقة، الانتصار، العودة، الإعمار، الانفجار الداخلي…

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
1,030 شهيداً 6,352 جريحاً منذ بدء العدوان الموسّع في 16 أيلول 2024
ساعات النزوح الأولى من الضاحية الجنوبية 
الضاحية الجنوبية بعد الإعلان عن اغتيال نصر الله 
12 شهيداً من الأطباء والمُمرّضين والمُسعفين بغضون 24 ساعة