طوال السنوات التي سبقت الإنهيار المالي في لبنان، تكرّرت التحليلات التي إستبعدت حصول هذا الإنهيار، وتحديدًا من بوّابة قراءة التوازنات الجيوسياسيّة على مستوى المنطقة والعالم. ثمّة من قال أن هناك «قراراً دولياً» بمنع الإنهيار المالي في لبنان، تفاديًا لتدفّق اللاجئين إلى أوروبا وسائر دول العالم. وهناك من إعتبر في المقابل أن الضغوط الإقتصاديّة ناتجة عن «قرار دولي» بتضييق الخناق على البلاد، في ظل الهيمنة السياسيّة التي يمارسها حزب الله على السلطة السياسيّة.
لكن ما إن حدث الإنهيار، حتّى تبيّن أن هناك ما هو أعمق من هذه القراءة السياسيّة، التي قد تبدو للوهلة أولى عميقة في دراستها للمتغيّرات الإستراتيجيّة في المنطقة، ولكنّها في حقيقة الأمر تبسيطيّة من ناحية قراءتها للمشهد المالي والإقتصادي المحلّي. ولعلّ الصدمة الكبيرة كانت حين اكتشف كبار المحللين الإستراتيجيين بأنّ كثيراً من الظواهر الماليّة التي شهدها لبنان بعد تشرين الأوّل من العام الماضي، كانت في حقيقة الأمر مجرّد نتيجة بديهيّة وطبيعيّة لعوامل كانت تتراكم داخل ميزانيّات القطاع المصرفي ومصرف لبنان منذ 2011.
عادت هذه النظرة إلى الواجهة مؤخّرًا، وتحديداً من زاوية إنتظار نتائج الإنتخابات الأميركيّة وتحليل نتائجها. في تلك القراءات، عاد التفاؤل مثلاً بإمكانيّة فوز بايدن، مع ما يمكن أن يحمله هذا الأمر من حلحلة على مستوى «الحصار المالي» المزعوم الذي تشهده البلاد. كما عاد التوجّس من إمكانيّة فوز ترامب، مع ما يعنيه هذا الأمر من إمكانيّة إستمرار هذا الخناق لأربع سنوات جديدة. ولعلّ كل هذه التحليلات تنسجم مع بعض النظرات المحليّة التي تستخف بالبعد المحلّي للأزمة اللبنانيّة، كنظرة أقطاب الممانعة الذين يقدّمون نظريّات المؤامرة في حديثهم عن الحصار، أو نظرة أنصار الحياد الذين يصرّون على علاقة هذه الأزمة بتضييق الخناق الناتج عن مواقف بعض الأقطاب المحليين.
فالإقتصاد اللبناني، كما بات معلوماً، تجاوز مرحلة القدرة على جذب أي إستثمارات أو تدفقات ماليّة من الخارج، مهما بلغ مستوى الإحتضان السياسي الخارجي للبنان. ووضع إفلاس النظام المصرفي البلاد أساسًا خارج خريطة النظام المالي العالمي. أما من ناحية الدين العام، فأصبح المأزق أكبر من إستيعابه بمؤتمرات دعم عابرة، على شاكلة مؤتمرات باريس. فالمسألة صارت تتعلّق بإنهيار شامل، طال النظام المصرفي وماليّة الدولة وسعر صرف الليرة معًا. وفي هذا النوع من الإنهيارات الكبرى، لا يوجد طريقة للخروج دون رؤية شاملة لكيفيّة إعادة هيكلة الإقتصاد والنظام المالي بأسره من جديد، بمعزل عن مستوى الدعم الدولي.
باتت أزمة لبنان واضحة. فالدعم الدولي صار مربوطًا ببرنامج صندوق النقد الذي قدّم للأطراف اللبنانيّة رؤيته لحل بشكل متكرر في جلسات التفاوض مع حكومة دياب. أمّا مكمن العراقيل، فلم يرتبط بمواقف الحكومة السياسيّة، بل بتناقض الإصلاحات التي طلبها الصندوق مع مصالح واعتبارات أقطاب الحكم أنفسهم، وتحديدًا في ما يتعلّق بالمطالب التي تمحورت حول التدقيق الجنائي والكابيتال كونترول وخطّة الدولة الماليّة، بالإضافة إلى التعيينات القضائيّة وخطّة الكهرباء وتعيين الهيئات الناظمة. باختصار، ثمّة قدر لا يمكن الاستخفاف به من العوامل المحليّة التي باتت تضع العصي في دواليب المعالجات المتعلّقة بالوضع الإقتصادي في لبنان.
بالتأكيد، هناك علاقة لا يمكن إنكارها بين هويّة القادم إلى البيت الأبيض ومستوى الإستقطاب الأميركي الإيراني في المنطقة، وهو ما يمكن أن يترك أثره على ملفات لبنانيّة عديدة، وعلى مستوى الإستقرار أو التوتّر السياسي في البلاد. لكنّ الإعتقاد بوجود إنفراجة مباشرة، أو المزيد من التعقيد في الأزمة الماليّة اللبنانيّة كنتيجة مباشرة لهذه الإنتخابات، ينطوي على قدر كبير من التبسيط لطبيعة الأزمة اللبنانيّة التي سنحتاج إلى وقت طويل للخروج منها.