تحليل مصر
مصطفى علي

البابا تواضروس وفلسطين

السير في طريق ذي اتجاه واحد

29 تشرين الأول 2025

تُعدّ القضية الفلسطينية من نقاط التماس الهامة والرئيسية بين الدولة المصرية ومؤسساتها الدينية على مرّ الثمانية عقود الأخيرة، التي لطالما مارست فيها المؤسسات الدينية دورها باستقلالية عن مؤسسات الدولة، أو كانت محظوظة بما يكفي لأن يكون موقف الدولة شعبيًا، فتصطفّ إلى جانبها. لذا، على مدار عاميْن من الإبادة في قطاع غزة، تحملت الكنيسة المصرية متمثلةً في شخص البابا تواضروس الكثير من الانتقادات لتقاعسها عن أداء دورها التاريخي تجاه فلسطين، خصوصًا حينما تُوضع في مقارنة بنظيرتها مؤسسة الأزهر التي يمثلها شخص أحمد الطيب، أو في مقارنة مع ماضيها المتمثل في شخصيات البابا كيرلس السادس وشنودة الثالث. لكن في سياق تلك المقارنة، دائمًا ما يتمّ إغفال الكثير من الظروف الموضوعية، والخيارات المُتاحة للأشخاص في فترة ما، لذا علينا أن نسأل قبل أن نجيب: هل كانت لتواضروس خيارات أخرى، أم أن هناك ظروفاً موضوعية دفعت الكنيسة إلى السير في طريق ذي اتجاه واحد خاتمته الارتماء في أحضان الدولة بالكامل؟ 


من الوفاق إلى الصدام

بدأت علاقة الكنيسة بالأنظمة المتعاقبة كعلاقة وفاقية. فقد كان بين عبد الناصر (1954-1970) والبابا كيرلس السادس (1959-1971) علاقة غلبت عليها الصداقة والمحبة أكثر من الندّية. فعبد الناصر حلّ للبابا الكثير من المشكلات، من بينها قرار عبد الناصر دفع رواتب العاملين في المقر البابوي من ميزانية الدولة أو المشاركة في تمويل الكاتدرائية بالعباسية. وفي المقابل، كان البابا كيرلس وسيطًا لعبد الناصر في إعادة علاقته بالإمبراطور هيلا سيلاسي والتوسط في مسألة حصة مصر من نهر النيل، مستغلًا سلطة الكنيسة الروحية على الكنيسة الأثيوبية. تقاطعت مواقف بابا الكنيسة مع مواقف عبد الناصر، التي كان لها قاعدة تأييد شعبية عريضة في العالم العربي، ولم يكن المجتمع القبطي شاعرًا بالاغتراب حيث واتته فرص الانخراط في أشكال عديدة من دوائر الانتماء خارج الكنيسة. لكنّ موت عبد الناصر المفاجئ الذي أعقبه وفاة كيرلس بستة أشهر، كان لهما دور في صياغة علاقة أخرى جديدة للدولة بالكنيسة، أو الرئيس بالبابا. 

أطلق السادات (1970-1981) على نفسه لقب «الرئيس المؤمن مُحمّد أنور» وقال في مناسبة موجهًا كلامه بالأخص لبابا الكنيسة، أنا رئيس مسلم لدولة إسلامية. وأطلق في عهده العنان للتيارات الإسلامية التي عادت تحتل المجال العام بكثرة، خاصّةً في الجامعات، واستخدمت أساليب عنيفة لقمع التيارات الأخرى من اليسار الشيوعي والناصري. ذاك المناخ استدعى الكنيسة لساحة قتال، وقد كان شنودة الثالث (1971-2012)، بابا الكنيسة، جاهزًا. 

كان نظير جيد روفائيل (البابا شنودة الثالث) المولود عام 1923، طفلًا من جيل ثورة 1919 الليبرالي، وانخرط في حزب الوفد شابًا، وحارب إسرائيل ضابطًا في الجيش في حرب 48، وتدرب عقائديًا في مدارس الأحد ورأس تحرير صحيفتها في ذروة تسييس الكنيسة والهوية القبطية في مصر وتطويعها في مواجهة الاستعمار الغربي. ورغم غربة الأقباط وزيادة عُزلتهم في حقبة أنور السادات، اختار البابا شنودة أن يظل منخرطًا في قضايا محيطه العربي. فرفض زيارة القدس مع الرئيس السادات قبل أن يتحقق سلام شامل للمنطقة، متماثلًا مع خطّ سلفه كيرلس السادس الذي توقف عن زيارة القدس بعد الاحتلال الإسرائيلي 1967. رغم ذلك، حاول السادات أن يبتلع مرارة ذاك الموقف، وأرسل للبابا شنودة في أعقاب عودته مهنئًا، كما يذكر المؤرخ محمد حسنين هيكل في كتاب «خريف الغضب»، أن طريق الحج إلى الأماكن المقدسة قد أصبح مفتوحًا، إلا أن رد شنودة جاء كالتالي: أرجوكم إبلاغ الرئيس أن المشاكل التي تفصل مصر الآن عن بقية العالم العربي سوف تحل ذات يوم، وأنا لا أريد أن يكون أقباط مصر هم خونة الأمّة العربية حينما تعود المياه إلى مجاريها بين شعوب هذه الأمة، بالتالي لا أرى الوقت مناسبًا الآن لاستئناف الحج. وقبل وفاة السادات بأشهر، صدر قرار للمجمع المقدّس في سنة 1980 يمنع فيه سفر المسيحيين للحج في الأراضي المقدسة التزامًا بمقاطعة قطاعات واسعة من الشعب المصري زيارة فلسطين عقب اتفاقية كامب ديفيد.

وصل الصدام بين الرجليْن إلى ذروته حين حاول السادات تخفيف نقد الإسلاميين الذين ربّاهم في جرابه تجاه معاهدة كامب ديفيد، فقرر أن يجعل الإسلام المصدر الأساسي للتشريع، وليس مصدرًا للتشريع. وجد الأقباط، وعلى رأسهم شنودة، رئيس الدولة يستعديهم بشكل خاص. كانت أحداث الزاوية الحمراء المرحلة الأخيرة في الصدام، حين اتّهم السادات البابا بسعيه لصناعة دولة داخل الدولة، وقام بنفيه وعزله وعيّن بدلًا منه مجموعة من خمسة أساقفة لإدارة الكنيسة، وكان هذا التدخل الأول المباشر للدولة في شؤون الكنيسة وكسر قانون اختيار البابا. تكرّرت الاعتداءات الطائفية في تلك الآونة، وقد وثّقها الباحث يوسف أبو سيف في كتابه «الأقباط والقومية العربية». وعاد مصطلح «الأقلية» إلى الظهور مرة أخرى من التيارات الإسلامية في وصف الأقباط، ومن الأقباط في تعريف أنفسهم، وهو المصطلح الذي كان قد أُهمل استخدامه بعد رفض الأقباط أن ينصّ دستور 1923 على ضمانات خاصة لهم كجماعة متميزة.


سنوات مبارك

بعد خمسة أعوام من رئاسته، أعاد حسني مبارك (1981-2011) البابا شنودة إلى كرسيه في عام 1985. بين الحين والآخر، كانت تبرز على السطح المسألة الطائفية، بسبب قضايا متعلقة بالتحول من دين لآخر، أو بناء كنيسة. لكن مبارك وجهازه الأمني تحلّيا بالحكمة الكافية، على عكس نظام السادات، في احتواء البابا وغضب شعبه. ولكن بقيت هناك موجة من الإرهاب الجهادي، التي استهدفت الأقباط والكنائس، ما عزل الأقباط ضمن كنيستهم. وكان شنودة فارضًا سيطرته على مجتمع الكنيسة بالكامل، حتى أصبح ممثل الأقباط بوصفهم طائفة لا مواطنين عند الرئيس مبارك، كما يذكر الباحث باول رو في دراسته «الكنيسة والشارع: الأقباط وتمثيل مصالحهم من من مبارك إلى السيسي».

لكن في قضية فلسطين، وقف الرجلان على أرض مشتركة دائمًا، بل أن البابا شنودة في الكثير من المناسبات استخدم خطابًا متجاوزًا للاتجاه الدبلوماسي لمصر التي كانت ترتبط بمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل. في هبّة عام 1996، علّق شنودة على قرار مبارك عدمَ حضور قمة واشنطن بكلمات شديدة اللهجة، حيث شدّد على أن «القوة العربية» هي السبيل الوحيد لردع إسرائيل، وأكد أن الدفاع عن المسجد الأقصى في وجه الحفريات التي تهدف إلى هدمه، هو واجب عربي للمسيحي قبل المسلم. وبمبادرة شخصية منه، عقد المؤتمر الوطني لمساندة الشعب الفلسطيني في الكاتدرائية بالعباسية عام 2002 في أعوام الانتفاضة. وفي دمشق، في نفس العام في مؤتمر لدعم الانتفاضة، شدّد على منع أي مسيحي من زيارة الأراضي المقدسة، حتى لا يُعَدّ ذلك تطبيعًا، وشجب موقف الدول العربية التي لا تتخذ خطوة عملية لإيقاف العدوان الإسرائيلي. وظل البابا داعمًا لحق الفلسطيني في استخدام السلاح، كما أدلى في أحد التصريحات عام 2008. 


الإرث الثقيل

رحل شنودة الثالث في آذار 2012، في ذروة الأحداث التي تعرضت فيها الكنيسة لمحن كبرى. فاصطدمت بالجيش والدولة تباعًا، أولًا في أحداث ماسبيرو 2011 التي راح ضحيّتها 24 قتيلًا و217 جريحاً. ثم صعد محمد مرسي إلى الرئاسة ممثِّلًا تيار الإسلام السياسي، بينما كان البابا تواضروس الثاني لا يزال يتحسس موقعه وحدود سلطته الروحية على الأقباط. لم يكن تواضروس ذا شعبية أو كارزمية مثل شنودة. نُظر إلى الرجل على أنه أصغر كثيرًا من الكرسي المرقسي الذي يتوجب عليه ملؤه. وقد جوبِهت ظروف مجيئه باعتراضات، فلقد تم اختياره عام 2012 بناءً على القرعة الهيكلية التي استحدثتها الكنيسة كطريقة لاختيار البابا عام 1957، والتي حاول التيار العلماني المسيحي بقيادة كمال زاخر وميلاد حنا الاعتراض عليها وتغييرها في مناخ ثورة يناير 2011 وإحلال نظام أكثر ديمقراطية في اختيار البابا بدلًا منها، لما طغى عليها من فساد وشللية.

حاول البابا تجنب الصدام مع الرئيس مرسي في السنة التي قضياها سويًا، ولكن بسبب الإدارة السيئة من طرف مرسي لملف الأقباط في مصر، كان الصدام محتّمًا. أولًا، لم يزر مرسي المقر البابوي أبدًا، وأعلنت الكنيسة انسحابها من اللجنة التأسيسية للدستور نظرًا لسيطرة الإسلاميين عليها وسعيهم لأسلمة الدستور. واجهت الكنيسة تصعيدًا كبيرًا من جموع الإسلاميين، وإغراق الشارع في نظريات مؤامرة معتادة عن الكنيسة، ووصل الأمر إلى حدّ الاعتداء على المقر البابوي في العباسية في نيسان/أبريل 2013، ما جعل البابا يعبّر عن مرارته قبل أيام من خلع مرسي قائلًا إن ذلك الاعتداء «عار». لم يكن من الغريب إذن أن يقف البابا يوم خلع الرئيس في 3 تموز/يوليو ليلقي خطابه مبشّرًا بعالم شجاع جديد تحت خطة الجيش وخطة المشير السيسي لتسيير العملية السياسية. وعلى الرغم من ادعاءاته أن السياسة ليست عمل الكنيسة، كان البابا ممثلًا لمؤسسته الدينية، القطب الديني الوحيد الذي دعا السيسي للترشح للرئاسة عام 2014، واصفًا هذا بأنه واجب وطني. وقد سبق بذلك الأقطاب الممثِّلة للمؤسسة الإسلامية، كمفتي الديار علي جمعة الذي بارك الخطوة بعد حدوثها ولم يستعجلها، أو شيخ الأزهر الذي لم يعقّب على الإطلاق. 


السيسي المخلّص

يقول المصريون حينما تسرهم زيارة شخص «إحنا زارنا النبي». وعلى المنوال ذاته، قال الأنبا بولا عن زيارة السيسي للكاتدرائية عام 2015 «كأننا رأينا المسيح». ولكن مثل تلك المبالغات كانت معتادة من رجال الكنيسة. ففي سياق آخر، وصفه الأب مكاري يونان بأنه «مُرسل من السماء». تبدو مسيرة الكنيسة متمثلة في شخص البابا في عهد الرئيس السيسي، كواحدة من أكثر المؤسسات التي أمن جانبه منها، ولم تكن ملفًا يستحق العمل بكدّ لإعادة تنظيمه. فالكنيسة بخلفية خوفها من سنة من حكم الإسلاميين، ارتمت في حضن السيسي الذي اعتبرته مخلصًا وأبًا لشعب ضالّ. وكان لذلك تأثيره على موقفها من قضية فلسطين كما سنرى.

فبعد وصول السيسي رئيسًا، تراجع البابا عن اعتقاده بالحرية الشخصية في السياسة للمسيحيين، تلك الحرية التي تحدث عنها لتثبيت حقهم في المشاركة في ثورة 30 يونيو، وكفر بثورة يناير ومناخها الديمقراطي، واصفًا ثورات الربيع العربي بـ«شتاء» دبرته أيدٍ خبيثة للمنطقة العربية. وفي القضايا الحساسة، كاد البابا يفقد تأييد شعبه بسبب اتخاذه صف الدولة كاملًا. ففي قضية التهجير، مثلًا، كان البابا قد وصف، في اليوم الأول من تجليسه، هجرة الأقباط «الاختيارية» خارج مصر بالتهجير، ولفظة التهجير ذات حمولة تعبر عن مخطط تُشرف عليه مؤسسة، في تلك الحالة هي الدولة المصرية. لكن حينما حدث «التهجير» فعليًا، بإشراف الدولة مباشرةً عام 2017، فيما يُعرف بتهجير أقباط العريش، حاول البابا أن يلوي عنق معنى الكلمة خدمةً للرئيس واحتواءً للغضب. وقال إنّ لفظة تهجير الشائعة إعلاميًا، لفظة مرفوضة تمامًا، نحن نعيش في وطن واحد، الأقباط كما المسلمون، نعاني نفس المعاناة.

لم يكن هذا الموقف الأول الذي خذل فيه البابا شعبه باللعب على الكلمات. فحينما ووجه تواضروس بسؤال مُحرج في 29 كانون الأول 2014 في إحدى الكنائس بخصوص مذبحة ماسبيرو، ردّ البابا قائلًا هم أولادنا، دمهم غالي والقضية تحتاج إلى فحص وتدقيق جنائي ومن له حقوق عليه أن يطالب بها مثلما حدث في مذبحة الأرمن، الذين ما زالوا يحصلون على حقوقهم حتى الآن حيث اعترفت بمذبحتهم 24 دولة. ولكن في الخامس من كانون الثاني 2015، في حواره مع قناة «سكاي نيوز»، بدا وكأنّ البابا قد قام بنفسه بالفحص والتدقيق الجنائي لمعرفة القتلة، فأصدر حكمه النهائي بشأن القضية: حادث ماسبيرو كان خدعة من الإخوان للشباب المسيحي، استدرجوهم لمواجهة الجيش ثم تركوهم.


فلسطين في عهد السيسي

في العموم، لم يكن يبدو أن علاقة الكنيسة بفلسطين في عهد تواضروس ستختلف كثيرًا عن الموقف التاريخي الثابت. فحينما اندلعت عملية «عمود السحاب» على غزة في عام 2012، لم يكن البابا في معزل عمّا يحدث. شجبت الكنيسة الاعتداءات «الوحشية» لقوات «الاحتلال» الإسرائيلي على أهالي غزة، وأكد على نهج البابا شنودة بمنع الأقباط من زيارة الأماكن المقدسة إلا رفقة إخوانهم المسلمين.

لكن المواقف، وحتى الكلمات، تغيّرت بصعود السيسي. في عام 2015، وكانت العلاقات دافئة بين مصر وإسرائيل، ألغى البابا قرار الحظر وعاد المسيحيون لزيارة الأماكن المقدسة، بل قام البابا بنفسه بزيارة القدس لحضور إحدى الجنازات. ورغم أن الزيارة وُصفت بأنها غير رسمية وأن المسيحيين لن يزوروا القدس إلا صحبةً مع إخوتهم المسلمين، لا يبدو أن قرار المنع قد أعيد تفعيله مرّة أخرى، بل وخرج تواضروس في عام 2022 ليقول بانتفاء السياق الذي يمنع حج المسيحيين مرة أخرى إلى القدس، وعليه لا يوجد ما يمنع حجهم.

لقد أثار ذاك الموقف الكثير من السخط الموجه للكنيسة ولشخص البابا تواضروس، وقامت دعوتهم إلى إعادة النظر بشأن تضامنهم مع فلسطين، وشأن الموقف التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية. ولكن ذلك النقد سيتصاعد أكثر بعد السابع من أكتوبر. فبينما تنطلق بيانات الأزهر لتدين العدوان الإسرائيلي بشكل واضح، وتحمل لغة سياسية غير دبلوماسية كبيان إدانة قصف المستشفى المعمداني الذي هاجم فيه الدول الغربية ودعا الدول العربية جميعها لإعادة النظر جذريًا في شأن علاقتها بالغرب، جاء بيان الكنيسة متأنيًا بعد بيان الدولة، كما ستصبح العادة على مدار سنتين من الحرب. فإذا كان بيان الدولة متحفظًا في ألفاظه، فلن تفعل الكنيسة سوى أن تشدّ على مشدّ الدولة، لتدين «العنف غير المبرر» ولتساوي في بعض الأحيان بين المعُتدي والمُعتدى عليه كبيان 8 أكتوبر 2023 الذي ساوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين كطرفيْ صراع ندّيَّيْن. 


أعزل في مواجهة الجنرال

وفقًا لتوصيف بورديو، تتحرك الشخصيات العامة في المجال العام بما تمتلكه من رأس مال رمزي. لذا، إذا أردنا أن نُنصف في عقد تلك المقارنة، علينا أن نضع أموراً أخرى بالاعتبار. فعند النظر إلى أحمد الطيب، سنجد ما يسعفه في الحركة بمنحى ذي استقلال أكثر عن موقف الدولة من فلسطين في عهد السيسي.

ما يمتلكه الطيب ولا يمتلكه تواضروس، يتمثل أولًا في غطاء دبلوماسي قوي تكفله الإمارات، الحليف الأقوى لمصر. فالعلاقة الشخصية القوية بين محمد بن زايد وأحمد الطيب ليست بخافية على أحد، وأحمد الطيب هو رجل الإمارات في مجلس حكماء المسلمين الذي يرأسه إلى جانب كونه رئيسًا للأزهر، وقد خرج هذا المجلس في سياق حرب باردة خليجية ردًّا على رابطة علماء المسلمين التي كان يتزعمها يوسف القرضاوي ممثلًا صوت قطر وموقفها. في مقابل ذلك، لا يملك البابا تواضروس الشيء الكثير في لعبة التحالفات. حتى تأييده من شعبه، لا يتيقّن منه بشكل تام. فرجال البابا دائمو الشكوى من انتقادات شعب الكنيسة له، واعتبار تلك الانتقادات مجرّد حملة لجان إلكترونية شرسة. ولا ينسى البابا أبدًا أنه في عام 2015، واجهته حملة «تمرّد ضد البابا» لعزله. وإذا ما قورن بسلفه شنودة، يزداد البَون شسوعًا. فشنودة ابن مرحلة كاملة من تسييس الكنيسة، خاضها منذ أن كان شابًا، على عكس تواضروس الذي وجد نفسه في الإكليروس منذ سن الخامسة والثلاثين. وحينما جلس شنودة على الكرسي البابوي، وسّع سلطاته الروحية ونفوذه خارج البلاد. فبعد أن استلم من كيرلس السادس سبع كنائس مصرية في المهجر، توفّي شنودة و450 كنيسة في المهجر تخضع لسلطته الروحية، وشكّل أقباط المهجر سلاحًا قويًّا يُحسب له حساب في يد شنودة. أما في عهد تواضروس، فلا يبدو أن الرجل يتحلى بعلاقة جيدة مع المهاجرين، حيث اصطدم بهم في أكثر من مناسبة. هكذا، مجرّدًا من أيّ غطاء خارجي ودعم داخلي، اختار البابا ألا يقف أعزلَ في وجه السيسي، بل آثر أن يقف إلى جانبه. 


في عهد السيسي إذن، بلغت الكنيسة أقصى درجات التأميم السياسي. لم تعد مفاوضًا ولا شريكًا صامتًا حتى، بل باتت جزءًا عضويًا من خطاب الدولة الرسمي، بالأخص في القضية الفلسطينية. أصبح أمسُ البابا شنودة بعيدًا، وقد أدرك تواضروس هذا جيدًا واعترف به في أحد حوارات القلب إلى القلب عام 2018، حينما قال لم يحدث وأن تمنيت في أحد المواقف أن يكون البابا شنودة حاضرًا معي، كل زمن له معطياته، وزمننا هذا مختلف عن زمن البابا شنودة، بل وأزمة البابا شنودة، لأنه عاش أربعين سنة وعاصر رئيسين، أما أنا فجلست أربع سنوات، وعاصرت أربع رؤساء، وهو أمر مختلف كليًّا. كان هذا تأكيدًا لما ذكره قبلها بعام في أحد اللقاءات التلفزيونية أيضًا، في تلميح غير مباشر لموقف البابا شنودة حينما قرر أن يتصادم مع دولة السادات من خلال الاعتكاف، حيث أكد البابا أنه لا يمكن الاعتكاف كاعتراض على سياسة الدولة، فلكل زمن أحكامه.

يُمثّل البابا تواضروس نموذجًا للتماهي الكامل بين مؤسسة دينية كالكنيسة والدولة المصرية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقة بين الطرفيْن. مدفوعًا بخوفه من الإسلاميين، وبقلّة الخيارات أساسًا، اتّبع التماهي بما يُشبه تأميمًا من الدولة للكنيسة، كان نتاجه جليًّا في القضية الفلسطينية بالتحديد، حيث رأينا إفقار المجال العام القبطي وتجميد أي إمكانية لخطاب بديل عن الموقف الرسمي من القضية الفلسطينية يخرج من «فم» البابا.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟