قضية الأسبوع الحرب على لبنان
ميغافون ㅤ

الدَّرْكَبَة نحو «السلام»

مفاوضات من دون مفاوض

6 كانون الأول 2025

رحلة «المفاوضات» من الهامش إلى المتن

منذ انتهاء الحرب، أو حتى قبل انتهائها، تتصاعد أصوات لبنانية تطالب بتفاوض أو سلام مع إسرائيل، بغية إنهاء حالة الحروب اللامتناهية جنوبًا. من تصريح لنائب من هنا، إلى تسريب لكلام لرئيس الجمهورية من هناك، وصولًا إلى مقدّمةٍ إعلاميّة، دخلت مسألة العلاقة مع إسرائيل إلى الحيّز العام، بعدما كانت لعقود «ممنوعة» عن النقاش الداخلي. لم تدخل وحسب، بل باتت تدريجيًا نقطة السجال الأساسي، المسألة التي ستحدّد وجهة لبنان، الخارجية والداخلية. حتى كلام البابا، خلال زيارته الأخيرة، عن السلام، تمّ تحويله إلى مطلب للسلام مع إسرائيل، ليصبح هذا الموضوع محرّك السياسة حاليًا. 

بعد عقود من حظر الكلام بموضوع العلاقة مع إسرائيل، اقتحم هذا الموضوع الحيز العام ليصبح فجأة نقطة السجال الأساسية. 

لكنّ مسألة العلاقة مع إسرائيل لم تأتِ من فراغ. فقد بات التفاوض مع دولة الاحتلال وجهةً إقليمية، منذ إبرام الاتفاقات الإبراهيمية، ومن المتوقع أن تتحول إلى الوجهة الوحيدة مع الإنضمام المتوقع للمملكة العربية السعودية للاتفاقات، ومع دخول سوريا على الخط التفاوضي. هذا بالإضافة إلى الضغوط الأميركية الفظّة التي باتت واضحة في دفعها لبنان نحو التفاوض كشرط لتفادي الحرب والبدء بالإعمار، ما يعاكس اتفاقية وقف إطلاق النار التي تمّ التوصّل إليها قبل سنة. 

ردًّا على الضغوط والتهديدات، سارت الدولة اللبنانية، بتردّد، نحو «التفاوض»، تفاديًا لانفجار أزمة داخلية وهروبًا من الضغوط الخارجية. كان الأمر قد بدأ في العهد السابق مع اتفاق ترسيم الحدود، واستُكمِل مع وقف إطلاق النار بعد الحرب، وذلك قبل تعيين مدنيّ في «الميكانيزم»، ما أدّى إلى أول اجتماع رسمي مع ممثل إسرائيلي منذ عقود. ورغم محاولة رئيس الحكومة وضع الأمور في إطار محدود، رافضًا اعتبار ما جرى «مفاوضات سلام مع إسرائيل» أو «تطبيع»، ورغم تأكيد رئيس الجمهورية أنّ «السفير كرم مُكلّف بالتفاوض الأمني فقط»، جاء ردّ فعل بنيامين نتنياهو واضحاً باعتبار ما جرى خطوةً أولى نحو «تعزيز التعاون الاقتصادي بين لبنان وإسرائيل بعد نزع سلاح حزب الله». تكرّر الموقف نفسه في بيان السفارة الأميركية الذي اعتبر أن الهدف من الاجتماع «تحقيق الأمن والاستقرار والسلام الدائم». 

رغم محاولة الدولة اللبنانية تحديد حجم الخطوة الأخيرة، بات واضحًا أنّ الخارج، أكان إسرائيلياً أو أميركياً، يدفع نحو عملية تفاوضية أوسع، تنتهي بعملية «سلام» أو على الأقل بترتيب أمني بعيد المدى. 


«مفاوضات» ضدّ الداخل أم مع الخارج؟

لكن علامَ نتفاوض؟ 

من الواضح أنّ حصر التفاوض بالبعد الأمني المباشر لم يعد متاحًا، رغم تأكيدات الدولة اللبنانية. لكنّ معالم «السلام» أو التفاوض الأوسع ليست واضحة هي الأخرى. فلم نعد في مرحلة السلام التي تلت انتهاء الحرب الباردة وبدء التفاوض الفلسطيني- الإسرائيلي، مع التصوّر الذي رافقها عن طبيعة السلام ومتطلباته. دخلنا عصر اتفاقيات تقنية ما دون سياسية، تُفرَض بالإخضاع من قبل أنظمة استبدلت السياسة باتفاقيات أمنية واقتصادية وتقنية. فبعد الإبادة وقضائها عملياً على «حلّ الدولتين»، ومن قبلها الاتفاقات الإبراهيمية وضربها للمبادرة العربية للسلام، لم يعد هناك «سلام»، بل ترتيبات أمنية لصالح الخليج العربي وإسرائيل. لبنان، المهزوم عسكريًا والمنهار اقتصاديًا والمنقسم سياسيًا، مدعوّ لأخذ مكانه كـ«منطقة عازلة» ضمن الترتيب الجديد. 

ما مِن تفاوض مع «الخارج المنتصر»، بل مجرّد اتفاق على ترتيبات الخضوع بأقلّ كلفة ممكنة. التفاوض بهذا المعنى هو الاستكمال السلميّ للهزيمة العسكرية. 

يمكن لحزب الله المكابرة على هذا الواقع، لكن حتى رئيس مجلس النواب، «الأخ الأكبر»، اضطرّ إلى المشاركة بطريقةٍ ما في «الإخراج» الذي أدّى إلى التفاوض، تفاديًا لاحتمال ضربة جديدة ليس لحزب الله قدرة على التصدي لها. فالطريق إلى «التفاوض» هو نتيجة الهزيمة العسكرية لحزب الله، وانهيار موازين القوى على الجبهة الجنوبية. 

لكنّ ما سهّل تحويل الهزيمة الميدانية إلى هذا الزلزال السياسي هو مسار حزب الله السابق للخسارة، والذي قام على معاداة معظم القوى السياسية في لبنان، كما في سوريا، مستبدلًا أيّ محاولة للتفاهم مع هذين المجتمعين بسياسة الإخضاع من جهة، والاتكّال حصريًا على «بيئة المقاومة» كرافعة شعبية لمشروعه، من جهة أخرى. وهذا ما أدّى إلى تحويل الحرب نفسها إلى انقسام داخلي فجّر الأزمات الكامنة.

«المفاوضات»، بهذا المعنى، ليست مع دولة الاحتلال فحسب، وإن كانت قائمة بين الدولتين اللبنانية والإسرائيلية. هي تفاوض داخلي أو على الداخل، حيث يتفاوض جزءٌ أوّل من لبنان على مصير جزءٍ ثانٍ، كان قد خاض قبل الهزيمة حرباً بإسم الجزء الأوّل. 

التفاوض الفعلي هو مع «الداخل المهزوم»، على حدود دوره الجديد ومكانته في التسوية القادمة. التفاوض الداخلي المستحيل بات يتمّ في الناقورة. 


رواية «السلام كشرط السيادة»

ربّما، لذلك، يبدو لبنان الرسمي أكثر تحضيرًا للتفاوض الداخلي مما هو للتفاوض الخارجي. 

يدخل لبنان التفاوض مع إسرائيل تحت وطأة تهديد حرب، فاقداً تقريباً لأيّ قوّة تفاوضية، والأهمّ، لأيّ نظرة لهدف أو حدود للتفاوض. فالهزيمة العسكرية أخرجت موضوع التفاوض من ثنائية الـ«مع» والـ«ضدّ»، لتفرضه واقعًا مريرًا. لكنّ هذا لا يعفي من يذهب إلى طاولة التفاوض من تحديد، حتى بعد الأخذ بالاعتبار انعدام موازين القوى الراهن، أطر التفاوض وشروطه وحدوده الأدنى وخطوطه الحمراء. لعقود اعتبر العرب أن مجرّد قبولهم بالتفاوض يشكّل قوة تفاوضية في زمن كانت فيه إسرائيل تبحث عن شرعية عربية. أمّا اليوم، لم يعد للبنان ما يقدّمه في هذا السياق. يدخل المفاوضات من دون أي «ورقة»، ما يطرح أسئلة حول كيفية خوض التفاوض.

يدخل لبنان عملية تفاوضية، من دون أي قوة تفاوضية. وهذا لا يعود فقط إلى هزيمة حزب الله أو حجم الضغط الخارجي، بل لكونه يدخل العملية التفاوضية منقسمًا، يتفاوض جزءٌ منه على مستقبل جزءٍ آخر، بحالة من الخصومة تجعل من عملية التفاوض أزمةً داخلية قبل أن تكون تفاوضاً مع عدو خارجي.

لكن إن لم يكن هناك سياق سياسي يؤطّر عملية التفاوض الخارجي، فإنّ هناك الكثير من الروايات، والأوهام، التي تحيط بالتفاوض الداخلي. فهناك مقاربة لبنانية، قد تشكّل الموقف الضمني الداعم للتفاوض، مفادها أن السلام أو الحياد شرط لسيادة لبنان. شكّلت هذه الرواية موقف بعض القوى المسيحية خلال الحرب الأهلية، عندما اعتبرت أنّ الصراع مع إسرائيل يعرّض لبنان إلى خطر اجتذاب مشاريع خارجية لمقاومتها، ما يكبّل سيادة البلاد. تطور هذا الموقف في لحظة الوصاية السورية، خاصة بعد انتهاء مسار مدريد، حيث شكّل الصراع مع إسرائيل أحد مبرّرات بقاء الجيش السوري في لبنان. ومن ثمّ تعمّق هذا الموقف مع الصراع الداخلي مع حزب الله، حيث اعتبر البعض أن الاستمرار بحالة الحرب مع إسرائيل يمدّد حالة الخضوع لحزب الله. 

الموقف «الضمنيّ» الداعم لعمليّة التفاوض ينطلق من «حاجة لبنانية» لإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، والتي شكّلت مقاومتها، حسب هذه الرواية، أحد أسباب خرق سيادة لبنان أو إخضاعه لمشاريع إقليمية. إنهاء حالة الحرب حاجة داخلية قبل أن تكون مرتبطة بتطور الحرب مع الخارج.

قد يشكّل هذا الموقف اليوم الموقف اللبناني السائد، والذي يعتبر ضمنيًا أن البلاد دفعت ثمن هذا الصراع غاليًا وبات عليها إقفال هذا الملف بأي ثمن كان، ما يتماشى مع العقلية اللاسياسية للترتيبات الأمنية المقترحة للمنطقة.


إذا كان لا بدّ من تفاوض، فليكُن سياسيًّا

في وضع كهذا، يبدو أنّ البلاد تنزلق نحو عملية سلام خارج عن أيّ حوار داخلي يمهّد لذلك. 

قام السلام العربي-الإسرائيلي تاريخيًا على تهريب هذه العملية من أي حوار داخلي أو مساءلة لاعتبار أنّ الناس لن تقبل بها. فبات هناك، عربيًا، اتفاقيات سلام «من فوق» تتزامن مع رفض «من تحت». رغم هذا الانفصام، صمدت هذه الاتفاقات على مدار العقود وتغيُّر الأنظمة، ما يشجع مَن يريد السلام اليوم «تهريب» الاتفاقية خارج أي حوار أو نقاش عام. 

قيل الكثير عن ضرورة تخلّي حزب الله عن موقفه الرافض للاعتراف بالهزيمة. لكنّ الموقف المستغرب اليوم هو الموقف الرسمي، والذي بات يحاول «تهريب» ما يشبه «المفاوضات» مع إسرائيل من دون أي حوار أو نقاش أو شفافية.

وهذا الحوار يبدأ بالتخلي عن رواية السلام أو الحياد كشرط لسيادة لبنان، والتي سقطت مع هزيمة حزب الله وبروز المشاريع التوسّعية الإسرائيلية. التفاوض لن يحمي السيادة، بل بات العنوان لإخضاع لبنان لتدابير أمنية، هو غير قادر على مقاومتها. فمن يبحث عن منفعة داخلية لتفاوضٍ كهذا، يراهن على حسن نيّة إسرائيلية غير موجودة. 

ربّما كان الموقف الذي يربط بين استعادة السيادة وحلّ النزاع مع دولة الاحتلال يصلح كجزءٍ من عدّة الماضي، عندما كانت إسرائيل منخرطة بعملية السلام وكانت منظومة الحكم في لبنان قائمة على تحالف ممانع، استثمر باستمرار حالة الحرب- السلم لتبرير وجوده. لكن مع انهيار هذا المحور وخطر التوسّع الإسرائيلي، بات من الصعب الربط بين السيادة والسلام، هذا إن لم تصبح العلاقة بينهما عكسية. 

فنحن أمام خيار من إثنين: إمّا «تهريب» تفاوض مرّ مع الخارج مع احتمال انفجار داخلي، وإمّا اعتبار خطوةٍ كهذه مدخلاً لحوار داخلي، يسحبها من حالة الإنقسام، أي تسييس عملية التفاوض داخليًا لكي تشكّل تسويةً فعلية للصراع الداخلي. 

ما دام الداخل مقسوماً، لن يكون للبنان أيّ قوّة تفاوضيّة، مع خطورة انزلاق هذا الداخل نحو انقسام حادّ حول التفاوض. ليس للبنان أي قوة تفاوضية اليوم، خارج إمكانية تسوية داخلية تحصّنه ممّا يُفرَض عليه.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مهرجان مراكش: منى زكي في دور «الست» 
06-12-2025
تقرير
مهرجان مراكش: منى زكي في دور «الست» 
قضية الأسبوع

الدَّرْكَبَة نحو «السلام»

ميغافون ㅤ
حدث اليوم - الجمعة 5 كانون الأول 2025
05-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الجمعة 5 كانون الأول 2025
رموز نظام الأسد يتنافسونعلى تمويل ميليشيات في الساحل
الأمن العام اللبناني يصادر جواز سفر الكوميدي ماريو مبارك
«السلام» على طريقة ترامب 
05-12-2025
تحليل
«السلام» على طريقة ترامب 
غزّة إلى المرحلة الثانية