تحليل الحرب على لبنان
خالد صاغيّة

لبنان تحت الاحتلال 

4 خيارات وجنازة واحدة

30 تشرين الأول 2025

يُحكى عن نقاط خمس، عن قرى مدمّرة، عن إعادة إعمار ممنوعة، عن تصاريح لقطاف الزيتون، عن خروقات لاتفاق وقف إطلاق النار، عن مسيّرات، عن اغتيالات… وكلّ هذه استعاراتٌ لمُفرَدةٍ يندر استخدامها في الإعلام ومن قِبل الوسطاء والمسؤولين على حدّ سواء: الاحتلال. وإن ذُكِر الاحتلال، يأتي مُخفَّفاً، كأنّه مسألة عابرة، مجرّد ذيول لحرب سابقة، سوف تزول قريباً، ولا أثر كبيراً لها على حياة اللبنانيين، بل حتى على حياة الجنوبيّين منهم. كأنّما هناك تواطؤ ضمنيّ بين الأطراف المتناقضة على قياس نتائج الحرب الأخيرة بمئة معيار ومعيار ليس الاحتلال واحداً منها.


مع الأسف، يبدو الواقع مغايراً لهذا التبسيط. ومَن لا يريد قراءة الوقائع على الأرض، بإمكانه أن يستمع إلى السماء حيث ضجيج المسيّرات لا يكاد يختفي حتى يعود. لهذه المسيرات وظيفة تجسّسية طبعاً، لكنّ التجسّس ليس إلا واحداً من وظائفها. هي تجمع المعلومات عنك، لكنّها تذكّرك أيضاً أنّ الاحتلال جاثم فوق رأسك. احتلال ليس كالاحتلال. تسمعه ولا تراه، لكنّه يراك ويجعل منك كائناً مراقَباً على مدار الساعة. احتلال لا ينتهك «كرامةً وطنيّةً» عبر قضم الأرض وحسب، بل ينتهك «كرامةً فرديّةً» محوِّلاً المقيمين إلى سجناء تحت الرقابة المستمرّة. لا تكتفي المسيّرات بمراقبتنا، بل تريد «تصحيحنا»، أي تغيير سلوكنا. قد نعتقد بسذاجة، ونحن نغيّر بعض الخصائص في هواتفنا المحمولة، أنّنا نستعيد بذلك الإمساك بزمام حيواتنا، لكنّنا نغفل عن حقيقة أنّ هذه المسيّرات لا تريد الداتا الخاصّة بنا وحسب، بل تريد تأكيد الاحتلال وتطبيعه في آذاننا ورؤوسنا. 


إزاء هذا الواقع، وربّما على النقيض منه، تتنازع الساحة اللبنانية أربعة طروحات أقرب إلى الاستحالات في المدى المنظور:

1- المقاومة

وافق حزب الله على اتفاقية وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي، وما زال ملتزماً بها رغم كلّ الخروق الإسرائيلية. وبخلاف فانتازمات سائدة عن خُطط يُعَدّ لها مجدّداً لتحرير الجليل، فإنّ حزب الله اليوم هو أضعف بكثير من يوم 8 أكتوبر، أي أضعف بكثير من الوضع الذي أدّى إلى هزيمته. أضعف بسبب تدمير قواه الذاتية، وأضعف بسبب ما أصاب نظام الأسد وإيران. لكنّ الضربة التي تعرّض لها حزب الله ليست وحدها ما يُعيقه. فهو يعرف أنّ أيّ مقاومة يمكن أن تنشأ اليوم لا يمكن لها أن تنشأ وفقاً لمنظومة الردع التي حاول بناءها منذ حرب 2006، بل عليها أن تتّبع نموذجاً مختلفاً تماماً عن النموذج الذي اتّبعه في العقدين الأخيرين. أضف إلى كلّ ذلك صورة الحزب المشوّهة لدى قسم كبير من اللبنانيين، بسبب سياساته الداخلية في لبنان وأدواره العسكريّة في سوريا، وكذلك العزلة الداخليّة التي يعاني منها بعدما تخلّى معظم حلفائه عنه، وبعدما باتت بعض أبواقه تتحدّث عن سلاحه علانيّةً كسلاحٍ لحماية الطائفة ليس إلا. 

2- نزع السلاح

منذ اللحظة الأولى لتشكيلها، لم تطرح الحكومة اللبنانية مسألة نزع السلاح كجزء من استراتيجيّة التخلّص من الاحتلال وذرائعه. تمسّكَ رئيس الحكومة بنزع سلاح حزب الله بناءً على أسباب داخلية بحتة: تطبيق اتفاق الطائف وربّما أيضاً خطاب القسم. يواجه هذا الطرح معارضةً داخليّة كونه يتغاضى تماماً عن مسألة الاحتلال وسُبُل مواجهته، من جهة، ويستخفّ بمخاطر ما قد يستجرّه نزع السلاح من حرب أهليّة، من جهة أخرى. لكنّ الضربة الكبرى لهذا الطرح لم تأتِ من الداخل، بل من الخارج. فالمبعوثون الأميركيّون الذين يصرّون على نزع السلاح، تراجعوا عن فكرة «الخطوة مقابل خطوة» وعن إعطاء الضمانات. أمرُ اليوم الأميركيّ هو: انزعوا سلاح حزب اللّه، ثمّ نرى. وقد لا نرى. هكذا عاد موضوع نزع السلاح ليصبح جزءاً من السجال الداخلي حول العلاقات بين الطوائف ودور الدولة أكثر ممّا هو شرط أو مقدّمة لانسحاب إسرائيلي.

3- لا مقاومة ولا نزع سلاح

هذا الطرح الأقرب لما يروّج له رئيس مجلس النوّاب، يستوحي نموذجَه من التسويات التي اعتاد لبنان على إخراجها وفقاً لصيغة «لا غالب ولا مغلوب»، أو مواجهة الأحداث والتحوّلات الكبرى عبر التمسّك بالإبقاء على الوضع القائم كما هو. وإذا كان رئيس المجلس وغيره يراهنون على القدرة على امتصاص المطالب الداخليّة بنزع السلاح، فإنّ حظوظ هذه الصيغة تبدو ضعيفةً لأسباب خارجيّة تريد أن تدفّع «المغلوب» ثمناً، وأن تحقّق لـ«الغالب» مكاسب، و«الغالب» هنا ليس إلا إسرائيل نفسها. حتى لو لم تحدث تطوّرات دراماتيكيّة، فإنّ هذا الطرح يُبقي على الاحتلال بأشكاله المتعدّدة.

4- التفاوض مع إسرائيل

بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، ارتأى رئيس الجمهورية أن يحرّك المياه الراكدة من خلال طرح فكرة المفاوضات مع إسرائيل. وإن كان الطرح الأساسي يحاكي المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحريّة، فإنّ بعض الأطراف تلقّفت الفكرة لتدفع نحو مفاوضات مباشرة قد تفضي في النهاية إلى إنهاء حالة العداء مع إسرائيل.

مرّةً أخرى، لا تبدو حظوظ هذا الطرح أكثر ترجيحاً. فالمفاوضات، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، شرطها هو تحديد هدفها، قبل أن يذهب كلّ طرف ليفاوض عمّا يستطيع تقديمه للوصول إلى الهدف. لا يمكن للبنان أن يفاوض إلا على تحرير أرضه، قبل أن يرى إن كان يمكنه أن يدفع ثمن تحرير الأرض في هذا الظرف. لكنّ إسرائيل لا تبدو في وارد الدخول في مفاوضات لإنهاء الاحتلال. قد تفاوض حول ما ستجنيه لقاء عدم شنّ حرب جديدة. أمّا الانسحاب وإعادة إعمار كلّ قرى الجنوب، ووقف المسيّرات التجسّسية في سماء لبنان، فلا يوجد من يريد التفاوض عليها، مهما كانت الأثمان التي يبدي لبنان استعداده لدفعها. في عُرف إسرائيل، نزع السلاح هو غنيمة الحرب السابقة. المطلوب الآن البحث بأمور أخرى، بالمنطقة المحتلّة، بتلك التي ينبغي أن تكون خالية من السكان، والتي ينبغي أن تكون خالية من السلاح، بإقامة منطقة اقتصادية دولية على أنقاض القرى المدمّرة… إلخ.

تجري على ألسنة كثيرين كلمة سرّ هي «كسر التابوهات» للحثّ على التفاوض المباشر مع إسرائيل. لكنّ التابو الذي يُكسَر في الحقيقة هو ما حافظ عليه كلّ الزعماء اللبنانيين، على اختلافاتهم، من بشير الجميّل إلى حسن نصرالله، تابو الـ10,452 كلم2.


لبنان تحت الاحتلال، وربّما كان لا يملك هامشاً كبيراً للمفاضلة بين الخيارات المطروحة عليه. غير أنّ ذلك ينبغي ألا يحجب حقيقة هذه الخيارات التي لا تعدو كونها مسارب تؤدّي إلى طرق مسدودة أكثر ممّا تفضي إلى مخارج واقعيّة للتخلّص من الاحتلال. من الآن وإلى أن يتمكّن الخيال من ابتكار حلول أخرى، سيبقى اللبنانيون، جميعاً، مجرّد أسرى تعيد المسيّرات الإسرائيليّة تقسيمهم إلى فئتين: فئة تحت المراقبة، وفئة على لائحة الاغتيال.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟