تعليق فلسطين
رشا عزب

البحث عن الطفل أنس الشريف

في ألبوم جباليا 2008

14 آب 2025

منذ أن نشرَت «الجزيرة» صورة أنس الشريف طفلاً أثناء حرب «الرصاص المصبوب» على غزّة عام 2008، خبطَت رأسي كرة، واشتَعلت نقطةٌ في ذاكرة بعيدة، وقلتُ في نفسي: لماذا أعرف هذا الوجه الصغير!


خطوة إلى الخلف

كانت الساعة الثانية صباحاً، برد يناير/ كانون الثاني يُغلق مسامّ الليل، جميع المارّة ملثّمون من صفعات الصقيع. لا يستطيع نفرٌ الوقوف ثابتاً. لا بدّ أن نتحرّك لمقاومة البرد. قفزتُ على رصيفٍ لتسخين جسدي، سألتني منال، وهي تمسك الكاميرا الصغيرة: احنا فين يا رشا؟ وأجبت: احنا في فلسطين يا منال!

كنا هناك في العام 2008، لتغطية أولى سنوات حصار قطاع غزّة، وعشرات الصحافيين من كلّ مكان في العالم. منال خالد وأنا بكاميرات ديجيتال صغيرة، بينما كان أنس الشريف طفلاً، لا يتجاوز عمره 12 سنةً.

كانت أوّل سنة لحصار غزّة بعد فوز حركة «حماس» بالانتخابات التشريعية، ولاح شبح التجويع. كسر الغزيّون السور الفاصل بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، وعبروا إلى العريش لشراء احتياجاتهم من الطعام والشراب. أعطتهم السلطات المصرية أربعة أيام فقط ليعودوا إلى غزة، وبالفعل، انتهت المهلة وعاد كل الغزيّين إلى أرضهم. وبينما كان الغزيون في سيناء يتحرّكون، كنتُ ورفاقي في غزّة. وصلنا إلى جباليا، حيث بيت أبو العيش الذي استضافنا وأطعمنا طوال أربع ليالٍ، بينما كان الحصول على الطعام من المُضنِيات.

دخلنا بشكلٍ أيسر ممّا كنّا نتخيّل. فالحدود وهميّة وفلسطين أقرب إلينا من أولى محافظات الصعيد في مصر. فلسطين ليست ببعيدة، ولم تكن كذلك يوماً، إلا في هذه الفترة الملعونة. وجباليا، هي المكان الذي عرفني في غزّة. ركبنا سيارةً من شارع صلاح الدين حتّى شمال القطاع، وعبرنا المسافة في نصف ساعة تقريباً. وصلنا إلى جباليا البلد، ونمنا على الأسرّة، بينما افترش أهل البيت الأرض. نمنا في بيت صديقنا رزق أبو العيش، مع كرم وضيافة زوجته الصابرة عايدة، وأطفالهما علاء ودلال. وفي الصباح، اصطحبَنا صديقنا إلى مخيّم جباليا وقضينا أطول وقت ممكن نسمع الناس ونلفّ في حواري المخيّم ونلتقط الصور ونسجّل كلام النساء داخل مطابخهم التي خلت من المونة، وأمام أفرانهم التي يشعلونها بالحطب. وقدّمت منال فيلمها التسجيلي الأوّل: «باب الجنّية»، من غزة.

مكثنا في شمال القطاع طوال الأيّام الأربعة. ذهبنا مرّةً واحدةً إلى مدينة غزة، وتعلّقنا بمخيّم جباليا وأحببنا مخيّم الشاطئ.

شعرتُ في لحظة أنّني سوف أجد صورة أنس، يلعب مع رفاقه فوق تلّة جباليا التي ترى المخيّم من علوٍ. ربّما مررنا بجوار منزله أثناء التصوير، ربّما كان الطفل الذي طلب منّي أن يضغط على زر التصوير في الكاميرا الديجيتال الصغيرة أو الطفل الذي طلب تصويره ببندقية خشبية صنعها بالغراء والمسامير. ومع مرور ألبوم الصور الذهنية،  تداعَت ذاكرتي بشكلٍ متتالٍ، الصورة تعود لفيديو سُجّل في عام 2008، وهو نفس العام الذي دخلنا فيه إلى غزة لأوّل مرّة. تذكّرت على الفور أنّني التقطتُ ألبومَ صورٍ لأطفال مخيّم جباليا. ظللتُ يومين أبحث في كروت الذاكرة عن صورِ هذه الرحلة. في الحقيقة لم أكن أبحث إلّا عن صورة الطفل أنس الشريف. تعثّرتُ في الوصول للألبوم. زاد غضبي، ولكن أثناء بحثي، بدأَت صورة أخرى تقترب لطفلٍ غزّيٍّ أعرفه جيّداً، يُقارب عمرَ أنس. الاثنان وُلدا وعاشا في جباليا، واختارا العمل في الصحافة.


علاء أبو العيش يظهر 

رأيت علاء أبو العيش، الطفل الذي عشنا في بيته ورافق أمّه في كل المهامّ المنزلية، وهو أكبر إخوته الموجودين في البيت، يَقظ ويُحبّ الكلام ملءَ كفّيه الصغيرتين.

صورة الطفل أنس، الساكن السارح في خوذة وقناع الصحافي الذي يغطّي وقائع الحرب الصهيونية على غزّة في 2008، هو نفسه الذي يتصدّر نشر أخبار قطاع غزة في أشرس حرب إبادة شهدتها المدينة الصغيرة، لكن صورة علاء أبو العيش التي عشت معها أياماً، ظلّت تزاحم صورة أنس، فتركتُ الذاكرة تأخذ مجراها.

قبيل العشاء المُعَدّ من خزين البيت المحدود، الزيت والزعتر والجبنة والدوقة وما تيسّر من الخضروات، جلسنا على أرض الدار، لنتعرّف على الأسرة. ظهر علاء طفلاً في العاشرة تقريباً، مبادراً بالتحية والكلام، وبدا سريع التقاط الأشياء والألفاظ. طلب منه والده إحضار الخريطة، أحضرها علاء بسرعة وفتحها وأشار بأصبعه إلى يافا، وقال: احنا من هون، نزح جدّه من يافا لغزة مع النكبة، يعرف علاء موطن أجداده، ويعرف أين يضع يده على الخريطة.

بعد 17 عاماً على لقائي بعلاء أبو العيش في مخيّم جباليا، قبيل الحرب، وصلَت إليه صديقتي منال عبر فيسبوك وقالت لي أخباره. اختار دراسة الصحافة وبات يعمل في رام الله. لم أستوعب أن طفلنا صار زميلاً إلا عندما تحدّثتُ معه عبر الفيديو ورأيت وجهه الجديد. ما زال وسيماً ومناكفاً ويضحك بكثرة أثناء الحوار خجلاً ومرحاً. وحين اندلعت الحرب، كان يتواصل مع صديقتي ليُطمئنها على وضع أسرته وعائلة أبو العيش التي ظلّت في جباليا حتى هدنة فبراير/ شباط. نعرف جيّداً أنّ رفيقنا وصديقنا رزق والد علاء، ظلّ في جباليا رغم الأهوال، متنقّلاً بين مخزن وكراج ودكان. تؤسّس عايدة زوجتة بيتاً في كلّ هذه الأماكن، وتعيد اختراع الحياة في أكثر بقعة طاردة للحياة. 

مرض قلبُ صديقِنا رزق، وبات يحتاج إلى أدويةٍ عاجلةٍ، ونحن على بعد كيلومترات، نعيش بخيبتنا وعجزنا عن إيصال ما ينقذه. ثم تنقطع أخبار علاء من رام الله، ونعرف أن الاحتلال اعتقله ضمن أكثر من 260 صحافياً من الضفّة ورام الله، واختفى لفترة من الوقت، ثم أعلن  نادي الأسير الفلسطيني عن اسمه ضمن معتقلي غزة الذين تم نقلهم إلى سجن عوفر سيّئ السمعة. حدث ذلك في ديسمبر/ كانون الأوّل من العام الماضي.


بدأ وجه الطفل علاء أبوالعيش يكتمل في عيني، بينما أستدرك أنّه الآن، يقضي اللحظات المخيفة في سجن عوفر. رأيتُ أيّاماً من طفولته بين اجتياح وقصف، تذكّرته، في يناير/ كانون الثاني 2009 داخل فرشته، يقوم من نومه، يُطبطب على شقيقته دلال دائمة البكاء فزعاً من صوت الطائرة الأف-16. كنتُ قد ذهبت إلى غزة وحدي لتغطية وقائع الحرب، وعشت في بيت رزق أبو العيش للمرّة الثانية، وقد كسب علاء عاماً وخسرت غزة وعائلة أبو العيش ثلاثة من بنات الدكتور عز الدين أبو العيش في صاروخ موجّه استهدف غرفة البنات فقط.

أنس هو علاء الذي دفعته الظروف للبقاء في غزة، وعلاء هو أنس الذي خرج لإنقاذ العائلة، فصار من أسرى الاحتلال، والاثنان مصيران لأغلب صحافيي فلسطين.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً