تحليل نظام الكراهية
سيلفانا الخوري

الفنّ في مواجهة الميليشيا 

برفورمانس الذكورة وهشاشة الهويّة

10 أيلول 2025

«جنود الرب» كـ«دراغ شو» معكوس

لو لم نكن نعرف مَن هُم «جنود الربّ»، ومن أي سلطة مالية وسياسية خرجوا، لضحكنا كثيراً أمام الفيديو الذي نشره أحد عناصرهم على صفحة «أبناء الصليب المقدّس» على تيكتوك وهو يحرّض على الراقص ألكساندر بوليكيفيتش ويدعو إلى وقف عرضه في بيروت. فالفيديو الذي يُراد له أن يفضح «الشذوذ» ومخالفة الطبيعة، يحمل أدوات تفكيكه في داخله، ويبيّن من خلال استعراض سياسي للجسد الذكوري أنّ «الطبيعة» التي يدافع صاحب الفيديو بتوتّر وغضب عنها، ليست إلا أداءً، برفورمانس. وأن الفيديو نموذج عن هشاشة الجندر لو أوصت عليه جوديت بتلر نفسها ليكون مثالاً عن نظريتها الشهيرة، لما جاءت النتيجة على هذا القدر من الدقة والمواءمة.

لا شيء طبيعيّاً في الفيديو الذي يدافع عن الطبيعة: لا المظهر الذكوري الفائض للشاب، ولا الخطاب الديني الذي يبدو تقليداً مفبركاً يفتقد لعقيدة متماسكة، ولا الحرص على دولة القانون الذي يكذّبه الأسلوب الميليشيوي، ولا الادعاء الثقافي الذي تفضحة ركاكة العبارة. كل ما في الأمر أننا أمام استعراض للعنف يلجأ للصلابة الذكورية والدينية ليداري ذعراً عميقاً من انكشاف الحدود الهشّة للهوية.

في الصورة، شاب بملامح فائضة الذكورة: صوته يتغالظ عمداً، وجهه مشدود على الغضب، خطوط جبهته والثلمان الثابتان بين عينيه قناع توتّر دائم، جسمه عريض ومنتفخ. كل شيء فيه يصرخ أنّه يمثّل الذكورة، يؤدّيها، يفتعلها. في المقابل، تتناوب صورته وصوته مع مشاهد من حفلات بوليكيفيتش. هنا الجسد على العكس، مرن ومتمايل. الشعر الطويل والماكياج وبذلات الرقص تضيّع الحدود بين الذكورة والأنوثة وتُصوّرهما بوصفهما سيلاناً متحرّكاً لا ثنائية ثابتة. يبدو الراقص مرآة مقلقة للشاب الغاضب لأنه في أدائه يفضح آليات إنتاج الذكورة التي يحاول الشاب تجسيدها بصرامة ليست أقل تمثيليّة واستعراضيّة من جسد ألكساندر على المسرح.

في كتابها «قلق الجندر»، تُبيّن بتلر كيف أنّ الجندر ليس جوهراً بيولوجياً، بل سلسلة من الأفعال والسلوكيات التي، من خلال تكرارها، تنتج وهم الطبيعة. ومن أجل ذلك تحلّل عروض الـ«دراغ» المسرحية بوصفها ممارسة تكشف أن الهوية الجندرية ليست أصلاً طبيعياً بل نتيجة تمثيل متكرّر. بالنسبة لبتلر، تثبت عروض الدراغ أنّ الأنوثة والذكورة اللتين يُعاد إنتاجهما يومياً هما أيضاً نوعٌ من المحاكاة، بلا أصل ثابت. في الواقع، وخلافاً لما يمكن أن نظنّه للوهلة الأولى، أسلوب الدراغ يمثّله أكثر ما يمثّله هنا الشاب الغاضب. فالأداء الذي يقدمه في الفيديو أشبه بـ«دراغ» معكوس، استعراض مبالغ فيه للذكورة، يظنّ أنه يرسّخ الطبيعة، بينما هو في الواقع يفضح نفسه كمحاكاة متكلّفة. هنا نرى الذكورة نفسها وقد انكشفت بوصفها قناعاً. في المقابل، يستحوذ جسد بوليكيفيتش على أدوات الرقص الشرقي (أو البلدي، كما يفضّل تسميته) التي انحصرت تاريخياً بالنساء، ليلعب على التباسات المذكّر والمؤنّث ويكشف أن «الطبيعي» نفسه لا وجود له خارج الأداء. 


تشدّد مسيحي بطعم ميليشيويّة إسلاميّة

أما اللُّغة التي يعتمدها الشاب، فلا تقلّ مسرحيّةً عن جسده. فرغم ما يحويه التراث المسيحي من مراجع متشدّدة كان بإمكانه استدعاؤها، يظهر كأنه يحاول تقديم نسخة مسيحية من الميليشيوية الإسلامية، محاكياً أنماطها الخطابية. بدءاً بتحية «الله معكم إخوتي الأحبة»، وهي تحية غير مألوفة على لسان المسيحيين العلمانيين ومحصورة بالإكليروس، لتبدو هنا وكأنها محاكاة للتحية الإسلامية. ومروراً بتطعيم اللغة بمصطلحات دينية مثل «الرعاة الصالحين»، في محاولة مفضوحة لتقمّص خطاب كنسي خارج سياقه. وصولاً إلى اسم الجماعة نفسه، «جنود الرب»، الذي يبدو مصاغاً على قياس «حزب الله».

هذه الاستعارة من الخصم ليست مجرّد محاكاة سياسية أو لغوية، إذ تبدو الميليشيوية الإسلامية كأنها «الآخَر» في وعي هذه الجماعة المسيحية. «الآخَر» الذي نكرهه ونريد التشبّه به في آن. لذا، فإنّ ما يتبدّى من خطاب الشاب أشبه بما يصفه فرويد عندما يتحدّث عن عودة المكبوت: يعود هذا «الآخَر» في لاوعي هذه الجماعة لتُستعار رموزه وأشكال خطابه. وما يُفترض أن يبقى مقموعاً بوصفه رمزاً للتهديد يظهر مجدداً في اللغة نفسها، فيتحوّل الخصم إلى نموذج مضمر، ويعود المكبوت متنكّراً على هيئة «إخوتنا المسلمين» الذين يستدعيهم الشاب في خطابه ليستمدّ منهم شرعية زائفة. بهذا المعنى، ما يُفترض أنه خطاب مسيحي متشدّد ينكشف بوصفه صدى لخطاب «آخر» يسكن في لاوعي المتكلم، ويعود لينفضح في اللغة وعبرها ويفضح هشاشة بنيته الأيديولوجية، وربما حتى انعدامها. 


ملشنة الدولة

في الواقع، ما يظهر من خطاب «جنود الرب» وممارساتهم لا يتعدّى كونه زعرنة منظّمة. إنهم جماعة تتغذّى من العنف وتستعرض نفسها كميليشيا. تمويلها مرتبط بمصرفي معروف باتت واضحة علاقاته باليمين المتطرّف الإسرائيلي والأميركي، وكذلك طموحاته لتثبيت نفوذه السياسي والإعلامي في لبنان. لا تدافع هذه الجماعة عن «القيم المسيحية»، بل هي أداة ميليشيوية ماليّة– سياسية تستخدم خطاب الأخلاق للتطبيع مع العنف وإعادة صياغة الفضاء العام بما يخدم مصالح رأس المال اليميني المتطرّف بنسخته المحلية.

ومثلما أن كل ما في الفيديو كاذب ومصطنع، هكذا تبدو حجج الشاب الثقافية والقانونية. فهو الحريص على صورة بيروت الثقافية، يرصف الكلام رصفاً ركيكاً عن بيروت التي خرّجت كتّاب وشعّار (كذا!) وفلاسفة ودكاترة من أهم الناس. وهو الساهر على تنبيه الأجهزة الأمنية ورجال الدين المسيحيين وإخوتنا المسلمين إلى ضرورة تطبيق القوانين ضد هيدي الاشياء اللي عم بتصير المقرفة. فيسأل طبعاً وينيي الدولة ويدعو إلى تطبيق قوانين يروح يعدّد أرقامها الواحد تلو الآخَر كأنه باحث في القانون يخاطب زملاءه في ندوة متخصصة، في حين أن كل ما يفعله هو استعارة شكل الخطاب القانوني ليمنح وعظه الميليشيويّ مسحةً زائفة من الشرعية. لكن خلف هذا الحرص المزعوم على القانون يكمن مشروع آخر: ملشنة الدولة. فالمطالبة بتطبيق القانون هنا ليست دفاعاً عن الشرعية، بل محاولة لتحويل الدولة نفسها إلى أداة بيد المنطق الميليشيويّ وامتداد لسلطة ذكورية غاضبة تحتكر تعريف «الأخلاق» و«الطبيعة».


قرف «جنود الرب» ممّا هو داخلهم

ولأن اللّغة فضّاحة، تتكرّر صفة «مقرف» في الفيديو بشكل لافت. ففي خطاب يُفترض أن يكون محصوراً بمعجم «الآداب العامة» و«الأخلاق»، تعود مفردة «القرف» على لسان الشاب خمس مرات مقرونة مرتين بكلمة «شيء/أشياء»، كأن الشاب يجد صعوبة في التعبير عما يثير هلعه في عرض بوليكيفيتش ولا يجد له اسماً أو يعرف ما هو تحديداً. لكنّ جوليا كريستيفا تعرف. في كتابها «قوى الرعب: دراسة في ما يثير الاشمئزاز»، تعتبر أن ما يثير القرف والاشمئزاز ليس شيئاً خارجياً وحسب، بل هو ما يكشف هشاشة الحدود بين الداخل والخارج، بين الطاهر والنجس، بين النظام والفوضى. إنّه ما يُرعب لأنّه يُذكّر الذات بما تحاول إقصاءه، أي بالهشاشة التي تحيط بهويتها. 

وهنا تلتقي قراءتها مع قراءة بتلر. فالخطاب الذي يحمله الفيديو يُفترض أنه «أخلاقي»، لكن سرعان ما ينكشف على مستوى لاواعٍ. فالشاب لا ينجح في حصر نفسه داخل لغة «الأخلاق»، بل يتسرّب إلى كلامه ما هو أكثر بدائية، وأكثر جسدية، أي لغة الاشمئزاز. عند كريستيفا، إنّ ما يثير الاشمئزاز لا يمكن تعريفه عقلانياً، بل هو أشبه بالارتجاج الجسدي، بالغثيان والتقزّز والتقيؤ. إنّه لغة الجسد التي تسبق اللغة الرمزية. إنه ما لا يصمد أمام لغة الأخلاق العقلانية، فيعود المكبوت الجسدي، ويطفو القرف في اللغة كعلامة على فشل السيطرة. فـ«المُقرف» ليس خارج الذات فقط، بل يسكنها، ويعود ليذكّرها بما تحاول طرده. 

ما يعبّر عنه الشاب في الفيديو، «العيب» الذي يريدنا هذا الصوت الصارخ على تيكتوك أن نفتح عيوننا عليه، هو الرعب من انكشاف أن الهوية ليست إلا بناءً هشّاً تحرسه كلمات كبيرة، ويكفي مشهد جسد واحد يرفض الانصياع حتى تشعر بالتهديد. لكن هنا تحديداً يبرز دور الفنّ بوصفه قوّةَ فضحٍ تكشف هذه البنى العمياء، ومساحة مقاومة ضد الظلاميات الناشئة أو تلك المقيمة منذ أمدٍ بيننا.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟