من أصل ثماني شركات تهيمن على سوق الأدوية في لبنان اليوم، هناك شركتان تأسّستا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشركتان تأسستا في النصف الأوّل من القرن الماضي، وثلاث شركات تأسّست قبل اندلاع الحرب الأهليّة أو في بداياتها. أمّا الشركة الوحيدة التي تأسست بعد الحرب الأهليّة، فنشأت عن اندماج مجموعة من الشركات الموجودة في السوق منذ ما قبل الحرب. وإذا قمنا بإحصاء العائلات التي تسيطر على معظم أسهم هذه الشركات الثمانية، فلن يتخطّى الرقم العشر عائلات. هذا أحد أوجه مفهوم «القلّة المهيمنة».
اقتصاد الكارتيلات
تمكّنت القلّة المهيمنة من توارث امتيازاتها في قطاع الدواء بالتحديد، أبًا عن جد. وفي هذا، يشبه حال هذا الكارتيل وضع الكارتيلات التي تسيطر على قطاعات البلاد الأخرى: من البنزين والمازوت إلى الصناعات الغذائيّة والحبوب وصولًا إلى المصارف والسيّارات وقطع السيارات والإلكترونيّات وغيرها. وفي كلٍّ من هذه القطاعات، بإمكان المرء أن يحصي بضع عائلات لا يتخطّى عددها أصابع اليدين، تمكّنت من السيطرة على معظم مبيعات هذا القطاع وأرباحه على مرّ الحقبات السياسيّة المتتالية. ورغم تبدّل التوازنات السياسيّة بين هذه الحقبات، لم تتبدّل كثيرًا خرائط الهيمنة والاحتكارات، إلا ضمن هوامش ضيّقة.
لا تختلف كثيرًا أدوات عمل الشركات التي هيمنت على سوق الأدوية عن أدوات عمل سائر الكارتيلات في القطاعات الأخرى. فهذه الهيمنة لم تنتج حتمًا عن آليّات عمل السوق الحر التي يظن البعض أن لبنان احتكم إليها قبل الحرب الأهليّة أو بعدها، بل نتجت عن «شغل العصابات» المحترف، الذي يتقن نسج ترابط المصالح مع النظام السياسي، ليعمل الاقتصاد السياسي بأسره لحساب الأقليّة المحظيّة.
هنا، يصبح بإمكاننا أن نفهم كيف تمكنت هذه العائلات من توظيف نفوذها السياسي للحفاظ على امتيازاتها ومصالحها، عبر مراجعة المحطات التي تمكّن فيها هذا الكارتيل من إسقاط أي محاولة لخفض أسعار الأدوية أو المسّ بمبدأ الوكالات الحصريّة. ولتحقيق هذه الغاية، تمكّن الكارتيل من دفع النظام السياسي لتفخيخ مراسيم وقوانين، بتضمينها بنوداً تحافظ على مصالح شركات استيراد الدواء ووكالاتها الحصريّة، كحال قوانين المنافسة والصيدلة، ومرسوم إسقاط مبدأ الوكالات الحصريّة عن السلع الأساسيّة عام 1992. كما تمكّن الكارتيل من كسر قرارات وزراء، بل ودفع بعضهم للاستقالة كما حدث مع وزير الصحّة الراحل إميل بيطار عام 1971.
تقاطعات الكارتيلات المهيمِنة والنظام
بإمكان المرء أن يكتشف سريعًا التقاطعات ما بين الأقليّات المهيمنة في كل قطاع، ما يكشف أن هذه العائلات تمكّنت من توظيف نفوذها المالي والسياسي لتوسّع سيطرتها على وكالات حصريّة واحتكارات في عدّة مجالات في الوقت نفسه.
فتجد من بين الشركات المهيمنة في قطاع الأدوية مثلًا، فتال غروب، الموجودة في السوق منذ أواخر القرن التاسع عشر. وبينما تسيطر المجموعة على 9% من سوق الأدوية حاليًّا، تمتدّ أذرع الشركة في الوقت نفسه لتهيمن على مجموعة من الوكالات الحصريّة في قطاعات أخرى كالمستلزمات المكتبيّة والإلكترونيّات والمواد الغذائيّة والتجهيزات المنزليّة وغيرها.
أما فرعون غروب، الموجودة في السوق منذ العام 1868، والتي تسيطر اليوم على 5% من سوق الأدوية، فتمتدّ أذرعها في الوقت نفسه في قطاعات أخرى بشكل موازٍ: من تكنولوجيا المعلومات إلى التجهيزات المنزليّة والعطورات والشحن والمواد الكيماويّة، وصولًا إلى التأمين وخدمات البث الفضائي.
غالبًا ما يتم التصويب على النظام السياسي بوصفه التجسيد المباشر للسلطة الحاكمة، صاحبة القرار الرسمي والتنفيذي الأوّل. لكنّ حكاية كارتيل الدواء، تمامًا كحكايات الكارتيلات المهيمنة في جميع القطاعات، تمثّل تجسيداً حيّاً لشبكة من مراكز النفوذ غير الرسميّة، المتجذّرة في جميع مفاصل الاقتصاد اللبناني. وهذه الشبكات ليست سوى المصالح العميقة التي تقف خلف هذا النظام، والتي تتحكّم في كثير من الأحيان بقراراته من خلال لوبيات تعمل في معظم الأحيان من خلف الكواليس. وباستثناء حالات قليلة، حين تعلن هذه الكارتيلات الإضراب أو تصدر بعض البيانات، غالبًا ما لا يتلمّس المقيمون أثر هذه الكارتيلات على القرار الرسمي.
في حالة جمعيّة المصارف، تمكّن الجميع من مشاهدة أثر اللوبي الخاص بالجمعيّة بشكل فجّ وصريح، في معركة توزيع الخسائر وما شهدته من سجالات امتدّت على فترة تجاوزت السنتين وعشرة أشهر. لكن في في معظم القطاعات الأخرى، غالبًا ما يظهر أثر هذه اللوبيات والكارتيلات للعيان بشكل متقطّع وفي أزمنة متفاوتة، ما يحول دون التركيز المعمّق في أثر هذا النوع من الهيمنة على المدى الطويل.
أهميّة تشريح الكارتيل
اليوم، قد يكون من المفيد تشريح هذه الكارتيلات، ومن ثم تشريح أثرها على شكل الاقتصاد اللبناني وبنيته. في حالة قطاع الأدوية بالتحديد، يمثّل الكارتيل السبب الأساسي لعدم استيراد الدولة الدواء بشكل مباشر لصالح المؤسسات العامّة والصناديق الضامنة، مقابل الاستمرار بالاعتماد على الشركات المستوردة لتأمين هذه الأدوية، ما يضاعف الفاتورة الدوائيّة على الدولة. ويشكّل هذا الكارتيل السبب الأساسي خلف ارتفاع أسعار الأدوية، نتيجة الاحتكارات والوكالات الحصريّة وانعدام المنافسة. كما يمثّل سبب محدوديّة حصّة «أدوية الجينيريك» من السوق المحلّي، والتي تضمن نفس فعاليّة الماركات المعروفة لكن بأسعار أقل.
على المستوى السياسي، يمكن لهذا التشريح الذي يحدد اللاعبين الكبار في قطاع الأدوية وأثر تكتّلهم، أن يسمح للقوى الاعتراضيّة بالتصويب على كتلة المصالح التي تقف خلف هذا النظام وأدوات عمله، كما يسمح بتحديد الأهداف الملموسة عند مواجهة شبكات المصالح هذه (الاستيراد المباشر للدواء، إلغاء الوكالات الحصريّة ومبدأ التمثيل، فرض جداول أسعار جديدة...إلخ). فمواجهة النظام تقتضي، إلى جانب التصويب على أدائه السياسي، التصويب أيضًا على أدوات عمله والمصالح الفئويّة التي يحميها، في مقابل المصالح التي يفترض أن تحاول قوى الاعتراض حمايتها، أي مصالح المجتمع ككل.