عبثيّة البحث عن الشرارة الأولى
فجأة، خرجت فيديوهات جديدة تشير بوضوح إلى دور ما للجيش اللبناني في إطلاق الرصاصات الأولى، دور أكّدته قيادة الجيش بأحد بياناتها. وفجأة، سقطت رواية الكمين، لتبدو الأحداث أكثر تعقيدًا، وأقرب إلى مظاهرة استفزازية تطوّرت إلى إشكال، قبل أنّ تحوّلها تلك الرصاصات إلى معركة مفتوحة على كافة الجبهات.
قد يكون هناك «قنّاصة»، أو خطة مسبقة للمواجهة، لا أدري وعلى الأرجح، لا أحد يستطيع تأكيد أو نفي ذلك. فروايات «الدفاع عن النفس» و«الكمين المدبّر» و«المؤامرة الخارجية» و«الإشكال الفردي» لا تتناقض، بل غالبًا ما تكون توصيفاً مختلفاً للحدث الواحد.
والأهمّ من كلّ ذلك، أنّ هذا لن يغيّر شيئاً. البحث عن الشرارة الأولى لن يغيّر رأي من صار داخل الحريق.
لم تتراجع ماكينة الحزب عن تجريمها للقوات، بل بالعكس، وسّعت المؤامرة لكي تضمّ الجيش اللبناني. فالمؤامرة قائمة، هذه الفرضية التي لا تقهر، والسؤال هو عن مدى توسّعها وتغلغلها. فبعد المجتمع المدني والإعلام والقضاء والقوات اللبنانية والثورة، تضاف اليوم المؤسسة العسكرية على قائمة الكيانات المتآمرة على «المقاومة». ما من محاججة، أو تحقيق، أو برهان، يمكن أن يغيّر هذه القناعة. فالتشكيك بالمؤامرة هو عمل تآمري.
هذا هو منطق الحرب الأهلية التي لم نتركها يومًا، منطق يجعل من خطوط التماس خطوطًا معرفية قبل أن تكون مادية.
مشاعر الحرب الأهليّة
ما أظهرته الأيام الأخيرة هو قابلية الحزب على هذه الحرب. فبعيدًا عن المعاني السياسية لأحداث الطيّونة أو عن الاقتتال والقتل الذي جرى، ظهرت بوضوح الطبيعة الحربية والإلغائية لماكينة الحزب، بقدرتها على شيطنة الخصوم وابتكار الروايات والدفع بسياسة الدم إلى حدودها القصوى.
لكنّ الحرب لم تعدّ فقط عند ماكينة الحزب الموجّهة. باتت في مشاعر السخط من منطق «فائض القوة»، والتي تعمل كتبرير للعنف المضاد، مشاعر من الصعب تجاهلها أو رفض أسئلتها:
هل كان مطلوب ترك الأحياء السكنية من دون أي دفاع؟ كما حصل في 7 أيار، أو مع القمصان السود، أو مع ساحات الثورة التي تحوّلت إلى هدف ليلي لـ«نخب» الحزب؟ فهل من الطبيعي أن تمرح ميليشيات حزب الله وحركة أمل من دون أي رادع؟ وفي غياب الرادع الرسمي، أليس من الطبيعي أن تدافع الطوائف عن ذاتها؟ هل مقبول لحسن نصرالله توصيف قتل أكثر من 100 شخص باليوم المجيد، وممنوع على مَن بات على لائحة القتل أن يدافع عن نفسه؟
شكّلت هذه الأسئلة مادة سجالات الأيام الأخيرة، أسئلة يصعب التصدّي لها بطلب الدولة أو بالتحذير من التماهي القاتل بين المظلوميات الأهلية. هذه هي مشاعر الحرب الأهلية التي باتت تنمو منذ أن عاد السلاح إلى الداخل اللبناني في هذا اليوم المجيد، مشاعر تسطّر الفروقات المادية بين الجماعات المتناحرة.
واقعٌ حياتيّ
يدور النقاش بحلقة مفرغة، ويجب عدم التعالي على هذه الفكرة. فـ«مشكلة حزب الله» لم تعد مشكلة سياسية يمكن حلّها بحوار من هنا أو بشعار السلاح من هناك. وهي ليست مشكلة ثقافية ناجمة عن انقسامات البلد الطائفية، كما يردّد دعاة الفدرالية. هي مشكلة إجتماعية، عنوانها نظام سيطرة حزب الله الكلّي. فسلاح الحزب الأكثر فعالية اليوم هو ترسانة المؤسسات التي يُحكم من خلالها قبضته، والتي تجعله أقرب إلى «واقع حياتي» ممّا هو خيار حزبي.
سيواجَه هذا الكلام بتهم «التنميط»، إن لم يكن «العنصرية»، لمجرّد دفعه للمسألة إلى ما هو أبعد من السطح السياسي. فبالنسبة لكلاب حراسة الطوائف، أي إعلاميّيهم ومنظّريهم، الطائفيين منهم والعلمانيين، أيّ كلام لا يؤلّه وحدة الطائفة هو تخوين.
لكنّ ترسانة المؤسسات التي يديرها حزب الله، من المؤسسات الأمنية والعسكرية إلى المؤسسات التربوية والخيريّة، مرورًا بالإعلام والمصارف، وصولًا إلى المؤسسات الدينية والسياسية، تضعه في خانة مختلفة عن باقي الأحزاب اللبنانية، حتى ولو كانت الأخيرة تتشوّق إلى استنساخ هذه التجربة.
الفدرالية قد تكون شعاراً «مسيحيّاً»، ولكنّها تتحوّل إلى واقع مؤسّستي لدى حزب الله، ما يتطلّب عدم التكابر على هذا الواقع ومحاولة فهم عواقبه.
الإجماع على «مشكلة حزب الله»
ما ظهر أيضًا في الأيام الأخيرة هو إجماع، خفيّ ومتقلّب، حول أوليّة «مشكلة حزب الله»، أي مشكلة السياسة في ظلّ وجود هذا الانقسام الأهلي القائم على هذه الترسانة من المؤسسات، والتي تدفع بالسياسة إلى حدودها الكيانية.
فمنذ أكثر من سنتين، لم ينجح الحزب بإقناع شخص واحد جديد بصوابية موقفه. بل بالعكس، خسر كل من حاول في الماضي التسويق لنظرية «إصلاح الحزب من خلال تطمينه» أو «تجاهل الحزب من أجل إصلاح البلاد» أو «فهم الحزب بسياقه»… فاكتشف دعاة هذا الموقف، غالبًا بعد تعرّضهم إلى هجمة إلكترونية، أنّ الحزب لا يبحث عن تطمين منهم، بل عن تبرير، تبرير بات تقديمه أصعب بعدما تحوّل إلى دفاع عن المصارف أو هجوم على التحقيق أو حماية للنظام كركيزة من ركائز المقاومة.
لكنّ أزمة هؤلاء لم تنفِ أزمة معارضي حزب الله «التقليديين» الذين ما زالوا، منذ أحداث 7 أيار، يحاولون لعبة «موازين القوى» معه، وهي لعبة نتيجتها الحتمية الحرب الأهلية. فمن إنجازات ثورة تشرين، نقل السجال من مشكلة «حزب الله»، أي مشكلة أمنية مع حزب عسكري، إلى «مشكلة حزب الله»، أي مشكلة اجتماعية تتطلب عقداً اجتماعياً مختلفاً.
من هذا المنظور، تصبح أحداث الطيّونة جزءاً من مشكلة نواجهها كمجتمع، مهما كان متصدّعاً، أكثر ممّا هي رادع للمشروع الأمني لحزب الله.
التكابر على الانقسام الأهلي
بيد أنّ نقل المسألة إلى أبعادها الاجتماعية، وبروز إجماع من حولها ليس كافياً. هو يضعنا في وجه مسألة الانقسام الأهلي، مسألة لا يمكن التعالي عليها من خلال شعارات «محاربة الطائفية» و«بناء الدولة»، كما لا يمكن اختصارها بمسألة سحب السلاح. فلا مكان لأي خطاب سياسي لا ينطلق من هذا الواقع، كما لا مكان لأيّ إصلاح إقتصادي لا ينطلق من مسألة المصارف.
لكنّ «مشكلة حزب الله» ليست مجرّد تجلٍّ لمشكلة لبنان الطائفية، مشكلة كانت تُدار في العقود الأخيرة من خلال الفساد التوزيعي والحوارات الفارغة والعلاقات الإجتماعية. هي انتقال لهذه المشكلة إلى حدود جديدة، مرتبطة بالطبيعة المؤسّستية والعسكرية لهذا الحزب. وهنا الكلام عن قوة أو ضعف الحزب لا ينفع، فـ«مشكلة حزب الله»، مشكلة ستتطلب عقدًا اجتماعيا جديدًا.
لكنّ المُكابِر الأساسي على الانقسام الأهلي ليس إلّا نصرالله نفسه، وهو الذي برهن البارحة أنّه لا يفهم أبسط قواعد التخاطب الطائفي اللبناني، كونه اعتاد مخاطبة جمهوره من وراء شاشته. اقعدوا عاقلين وتأدّبوا… واضح أنّك لم تلتقِ مسيحيًا غير جبران باسيل بحياتك. فهذه الكلمة لحالها كفيلة بإشعال الجبهات، مهما ادّعيت الدفاع عن كنائس المشرق…