الهروب من التدقيق الجنائي
برز اليوم خبر الاجتماع الذي جمع كلاً من رئيس الجمهوريّة ومستشاره سليم جريصاتي، إلى حاكم مصرف لبنان ووزير الماليّة، للبحث في العقبات التي تواجه عمل آلفاريز آند مرسال في عمليّة التدقيق الجنائي في مصرف لبنان.
تكمن المفاجأة الفعليّة في حديث الرئيس اليوم عن عقبات متجدّدة تواجه الشركة بعد أن أعطت جميع الأطراف سابقاً الانطباع بأنّ مصرف لبنان سلّم بالفعل بمسار التدقيق، مع كل ما يعنيه ذلك من ضرورة تأمين المستندات المطلوبة من قِبل الشركة.
لا بل وقبل توقيع العقد الجديد مع الشركة، كانت وزارة الماليّة تتحدّث عن تسلّمها المعلومات المطلوبة من قبل مصرف لبنان، وعن تسليم هذه المعلومات إلى «آلفاريز آند مرسال» لتذليل العقبات التي أفضت إلى عرقلة مسار التدقيق سابقاً.
كلفة الهروب
لن تقتصر كلفة العرقلة المستجدّة على البند الجزائي الذي يمكن أن يترتّب على لبنان جرّاء فسخ العقد، أو على أي دفعة أولى يمكن أن تكون قد تلقّتها الشركة.
مع الإشارة إلى أن الدولة اللبنانيّة سدّدت بالفعل 150 ألف دولار لمصلحة شركة التدقيق بعد عرقلة تنفيذ العقد السابق.
الكلفة الأكبر والأهم ستكون الإطاحة مجدداً بالمسار الوحيد الذي كان يمكن أن يتمّ الرهان عليه في الوقت الحالي لتوزيع مسؤوليات الانهيار وفهم كيفيّة تراكم الخسائر داخل ميزانيات المصرف.
لا يمكن الرهان اليوم على أي مساعدات خارجيّة وازنة أو حتّى قرض من صندوق النقد، من النوع الذي تحاول السلطة الحصول عليه حالياً، إن لم يبدأ مسار التعافي المالي من تحديد المسؤوليّات المرتبطة بفجوة ميزانيات القطاع المصرفي.
الهروب من التحقيقات
وفي نفس سياق التهرّب من كشف الحقائق المخفيّة في النظام المالي، تخرج إلى واجهة الأحداث أخبار المناورات التي يقوم بها حاكم مصرف لبنان أيضاً، لحصر مسألة التحقيقات في تحويلات شقيقه المشبوهة بهيئة التحقيق الخاصّة، التي يرأسها سلامة نفسه.
وبما يشبه توزيع الأدوار بينه وبين المصارف، تتناغم المصارف مع هذه اللعبة عبر الامتناع عن تزويد القضاء بداتا التحويلات، ومراسلة هيئة التحقيق الخاصّة لطلب التعامل مباشرةً معها بخصوص هذا الملف. وبما أن سلامة والمصارف هما من يدير دفّة التحقيق، فمن البديهي أن يتمّ حصر نطاق التحقيقات بفترة زمنيّة لا تشمل الارتكابات التي يتمّ التحقيق بشأنها.
ثمّة ملفّات مفتوحة في سبع عواصم أوروبيّة بإسم رياض سلامة، حاكم المصرف المركزي الذي يُفترض أن يدير دفّة الانهيار المالي اليوم. وفي بيروت، ثمّة نظام قضائي لا يملك القدرة على الولوج إلى حسابات سلامة أو شقيقه، ولا يملك من المعطيات إلا تلك التي تلقّاها من الأجهزة القضائيّة الأجنبيّة.
في هذا المشهد تحديداً، ثمّة مفارقة لا يمكن فهمها في دولة من المفترض أن تسعى لاستعادة مصداقيّتها دوليّاً، قبل الدخول في المفاوضات مع دائنيها الأجانب أو صندوق النقد الدولي.
الهروب من الحقيقة
في كل هذه المشاهد، ثمة قاسم مشترك: الهروب من الحقيقة، والمناورة بعيداً عن تحديد مسؤوليّات الفترة التي سبقت حصول الانهيار.
على هذا النحو أيضاً، تسير الحكومة بالتواطؤ مع سلامة في صياغة خطتها للتعافي المالي، بعيداً عن أي نقاش أمام الرأي العام حول الآليّات التي ستعتمدها لتحديد الخسائر أو توزيعها، وبعيداً عن أي مكاشفة في ما يخصّ مصير الودائع الموجودة داخل النظام المصرفي.
كلّ ما نعرفه اليوم حول هذه الخطّة، مصدره بعض التسريبات الإعلاميّة التي ارتكزت على مناقشات الفريق الوزاري مع الوزارات المعنيّة بقطاعات معيّنة.
في المقابل، تبدو المعارضة مغيّبة عن هذا المشهد بالتحديد.
لا أحد يسأل اليوم عن مصير ملف التدقيق الجنائي، أو مآل التحقيقات القضائيّة في موضوع التحويلات السويسريّة، ولا حتّى عن مصير أموال الصناديق الضامنة والتعاضديّة في مرحلة توزيع الخسائر.
النظام يتهرّب من التحقيق الجنائي والقضاء لكي يعيد هيكلة خسائره. أمّا المعارضة، فباتت تتراشق الاتهامات حول خسارتها لـ«خبر» إعلامي، يعلن نيلها منصب النقيب. فهناك من يتعاطى مع الخسائر الفعلية لكي يستعيد المبادرة، وهناك من يبدو عالقًا بالخسارات الوهمية.