1
قبل أيام من اندلاع الأحداث في فلسطين من النهر للبحر، أصدرت منظمة «هيومن رايت ووتش» تقريرًا برسومات جذابة حول الوضع داخل فلسطين، بواقع أنّ ما يبلغ 6.8 مليون فلسطيني يخضعون لنظام «فصل عنصري»، أبرتهايد، بدرجات متفاوتة حسب أماكن تواجدهم: في الضفة الغربية، في القدس الشرقية، قطاع غزة والداخل بمدنه المختلطة والفلسطينية الخالصة، وذلك تحت نظام عاتٍ من ناحية عسكرية على الأقل، وهشّ نسبيًا من ناحية حضارية وفي كل ما يتعلق بالرموز والأساطير التي تكوّنه.
وهنا تقع الحراكات الفلسطينية، تماماً في الفراغ الواقع بين هذين الوجهين للعملة الواحدة أو لنظام يبحث ببؤس طيلة الوقت عن الاعتراف به وعن الحق لليهود على هذه الأرض وفرض رموزه عليها بالقوة وإخضاع المقهورين الفلسطينيين لتلك الرموز ولسرديته الكاذبة.
2
تكمن أهمية الصراع على «الشيخ جراح» أنه عرّى الوجه الحضاري الهشّ للاحتلال وأعربه تماما كما يجدر إعرابه أمام ذواتنا كفلسطينيين، أمام المحيط العربي، وأمام العالم الحقوقي والعالم على مستواه الشعبي، بشكل ولا أبهى: شبان وشابات بوجه علماني تحرري (كما يعشق العالم الغربي أن يرى) يدافعون عن حي بالقدس، هم وسكانه الرائعون، يفطرون سوية ويغنون ويعزفون ويواجهون جيشاً فاشياً بقناع شرطة، يقمعهم ويطردهم ويطاردهم ويلقي عليهم القنابل الصوتية والمياه العادمة السامّة بعمليات كرّ وفرّ لا تنتهي وتجسّد معطيات تقرير الـ6.8 مليون فلسطيني بأبهى شكل.
ولكن وأنا أكتب هذه الكلمات، انهار هذا المشهد أو على الأقل اختفى عن الوعي البصري للعالم المترقّب، واستبدله سيناريو آخر كنت قد توقّعته وتخوّفت من تحقّقه عبر ستاتوس كتبته بالفيسبوك...وبالفعل تحقق بغالبه:
يا خوفي أن يتمّ إخلاء الشيخ جراح بهدوء عبر إزاحة تسليط الأضواء إلى الأقصى وحرب مفتعلة على غزة وخاصة أن الاعلام الإسرائيلي يحاول بالقوة إقناع الرأي العام أن ما يحدث بالقدس هو جراء «تحريض» حماس وإشعالها للموقف… خلط الأوراق هذا خطير جداً.
3
أكاد أجزم أنّ كل فلسطيني، سواء ولد قبل النكبة التي نتذكرها اليوم أو بعدها أو حتى بعد الانتفاضة الأولى والثانية الخ، يعاني بصدق من مخاوف الاقتلاع من بيته ومن حارته ومصادرة أرضه، لأن الاحتلال هنا ليس احتلالاً تقليدياً كما عرف التاريخ، بل هو احتلال «إحلالي» أي نهب الفلسطيني أرضه وبيته ووجوده وطرده وإحلال اليهودي مكانه بحجج مختلفة كأوراق ملكية، أو من دون حجج، ولا يخفى على أحد أنّ لا قهر يوازي قهراً كهذا…
هنا تقع أهمية «الشيخ جراح»، من خلال فضح السياسة الإحلالية كونياً ومحاولة نزع أحكام قضائية خاضعة لضغوط تضامنية عالمية، وقد كان التحرك قريباً جداً من تلك النقطة… إلى أن تم خلط الأوراق كما حذرت في الستاتوس. وهنا لا بد أن أشير إلى أن قضية الإحلال في الشيخ جراح لا تنفصل عن قضايا الإحلال والمصادرة التي تتخفّى من وراء أقنعة رأسمالية ونيوليبرالية في مدن مختلطة مثل يافا (وقد تحوّلت إلى غيتو عربي فقير في وسط متروبولين تل أبيب)، عكا واللدّ وحيفا وغيرها.
أعود إلى وجهَي النظام الصهيوني في فلسطين لأوضح بعض الأمور التي قد تخفى عن الكثيرين ممّن يتعاملون مع فلسطين كوطن من رموز وكلمات، وفي الكثير من الأحيان من أوهام. يعاني الإسرائيليون هم أيضا من متلازمات لا تُعَدّ ولا تحصى، أهمها متلازمة الحصار والخوف من انقضاض «الأعداء» عبر الحدود ورميهم بالبحر وعُقَد الهولوكوست، وبالأخصّ المسّ برموزهم وملامح سيادتهم… ولا شكّ أنّ قصف القدس بصواريخ حماس في عيد احتلالها و«توحيدها»، ومن ثمّ قصف تل أبيب وهي قلب إسرائيل الاقتصادي والثقافي والعسكري، هي ضربات رمزية قاسية تذكّر ببهلوانيات حزب الله الرمزية أيضاً في حرب تموز 2006.
ولكن ماذا بعد الرمزيّ والرومانسيّ، وهل سيوقف قضم المزيد والمزيد من الأرض والوطن ويمنع سياسة «الإحلال»؟… وأنا أتابع تعليقات وستاتوسات الكثير من المؤثرين العرب عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول قرب تحرير فلسطين من «المي للمي» وتحرير حيفا ويافا واللد وتزاحم اليهود عند أبواب المطار استعداداً للعودة إلى مواطن الأصل… أرغب أن أنتف شعري الأبيض وأصرخ... المطار شبه مغلق أصلاً… إسرائيل دولة قوية بنظام مركزي أمني محكم واقتصاد متين وهي غير ذاهبة إلى أي مكان في المستقبل القريب على الأقل… أما الفلسطينيون في المدن المختلطة، فهم أقلية من العُزَّل ولا يجب التعويل عليهم لردّ الكرامة المهدورة للناشطين في الهبّات العربية الأخيرة، فالأجدر هو طلب الحماية الدولية لهم… والأجدر من ذلك كله هو العودة لخيمة الشيخ جراح...