العيد الحقيقي هو اليوم الذي تهدم فيه تصورات وتبنى أخرى جديدة. فهنيئاً لفلسطين بعيدها.
ما يجري الآن هو تغيرات جوهرية تخوضها جغرافيات فلسطينية متعددة، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب. هذا الالتئام المفاجئ وغير المفاجئ في الآن نفسه، هذا المشهد المذهل في الشوارع الفلسطينية المختلفة، سوف يثبت تأثيره على نهج النضال والمقاومة الفلسطينية من الآن فصاعداً.
سياسة العزل والانفصام
اعتمدت إسرائيل، كسائر الأنظمة الكولونيالية، على سياسة العزل والانفصام. فقد توهّمت، بسبب نجاحها في عزل غزّة عن الضفة الغربية والمركز الفلسطيني عن قلبه، أنها أمسكت بذلك بخناق الشعب وفككت عراه وأجبرته على الاستسلام لها. علينا الاعتراف أنه نجم عن هذه التقسيمات الجغرافية شيء ليس بالقليل من الجفاف الحسي والمعرفي ومآسٍ يدفع الشباب الفلسطيني ثمنها غالياً منذ عقود.
فمدن كرهط ويافا والرملة واللد، والتي لها تاريخ نكبوي خاص بها، معروفة بتفشي ظاهرة الإجرام فيها، وبالعصابات المحلية التي يقودها شباب ضائع يقتل بعضه بعضًا. زد على ذلك أنّ إهمالًا متعمّدًا من قبل مؤسسات دولة الاحتلال ساهم في تفاقم الإجرام في هذه المدن وتطوره، بالتوازي مع مآسٍ أخرى مرافقة له: تسرُّب مبكر لطلاب المدارس، قلة نسبة الملتحقين بالكليات والجامعات، زواج مبكر، عنف ضد النساء، فقر وتجارة مخدرات. إن هذه المظاهر مجتمعة جعلت أهالي المدن الفلسطينية يبدون للبعض وكأنهم استسلموا للاحتلال وانصهروا في بوتقته.
الثمرة المعرفية للمقاومة الراهنة
هذا التصور الأخير، والذي يدل على إنجازات الاحتلال في العزل الجغرافي، قد يتغير الآن. ففي لحظات كالتي نشهدها اليوم، تثبت سياسة العزل أنها نسبية، مؤقتة، جاهزة للانقلاب في أي لحظة في وجه الاحتلال.
إن من أهم إنجازات المقاومة، أو الذود عن الحق، هي إنجازاتها المعرفية، بمعنى أنّ ما لم يُفهَم قبلها، صار متاحاً ومفهوماً بعدها، وعلى إثرها. الثمرة المعرفية الفورية للمقاومة الراهنة، وهناك ثمرات أخرى بحاجة لوقت وابتعاد عن الحدث لفهمها، هو ظهور ذلك الخيط السحري في فضاء المكان، والذي يتمسّك به المجموع المقاوم، يشدّه إلى ماضيه ويثبته في حاضره، ويمدّه بطاقات لم يدرك أنها أصلاً تحت تصرّفه، جاهزة، تنتظره ليستخدمها. فهذا الشباب الذي كان ضائعًا قبل أن يصبح مقاومًا، يستوعب حسياً، الآن الآن، أنّ لقوّته منافع أشمل من منفعته الشخصية. فهو يتذكر أنه جزء من مجموع، أي أنه ليس وحيداً، يتيماً، كما كان يظن. وهو يدرك، وحده، ودون حاجة إلى المثقفين والكتب والتاريخ، أن الطاقة التي تهدم هي ذاتها التي تبني.
في انتفاضة الأقصى، تشرين الأول 2000، لم يقتَل شباب من مدن المركز. أما اليوم، فأهالي اللدّ هم في قائمة الشهداء. من المؤسف حقاً أن تكون علامة الوطنية، أو دليل الانتماء للمجموع، هو الدم. لكن، من ناحية أخرى، نجحت اللدّ في إثبات ما حاولت هذه المدن إثباته منذ النكبة الأولى: فلسطين هنا، ولن نتزحزح من هنا.
حكم المستوطنين
هذا أيضا ما بات يفهمه الإسرائيليون بعد تأخير ملحوظ. فقد وصل مساء الثلاثاء نتنياهو إلى اللد، وكشر عن أنيابه ظنّاً منه أنه بذلك يخيف الشباب اللّداوي، وجهلاً منه لما تعنيه تكشيرة في وجه شاب لدّاوي. وصل نتنياهو بعدما سألت عنه وسائل الإعلام الإسرائيلية وقدمت له طلبين متضاربين يدلان أكثر من أي شيء على خلل منطقي:
الأول، زيادة الدعس على البنزين، أي تعليم العرب بالوسيلة التي يفهمونها، القوّة، عن السيّد الحقيقي والوحيد لهذه البلاد. أما الطلب الثاني، فهو إرجاع العفريت إلى قمقمه، أي العودة إلى أكذوبة حقوق مدنية مشتركة وعناق استشراقي لـ«عَرَبنا».
غير أنّ الإعلام الإسرائيلي لم يدعُ نتنياهو وحده إلى الانتقام. الصعاليك الذين يجوبون شوارع فلسطين في هذه الأيام يلبون النداء أيضاً. الشرطة الإسرائيلية التي يطالبها الإعلام الإسرائيلي بالسيطرة على الفوضى، هي بمثابة الأخ غير المرغوب به لجيش الاحتلال، فلا يحسب لها حساب، ولا يُدعى قائدها لإلقاء خطابات بجانب أصحاب القرار، كرئيس الدولة ووزير الحرب ورئيس الشاباك. وكما هو معروف، فإن فئة أخرى لا تحسب للشرطة حسابًا هي هؤلاء الصعاليك، أو فئة المستوطنين اليهود المدعومين من قبل أحزاب يمينية قوية السطوة، والتي لا تقيم وزنًا حتى للجيش وتفعل ما تشاء حيث تشاء ومتى تشاء. إن الحاكم الحقيقي لدولة الاحتلال هم المستوطنون. فالرؤيا رؤياهم، والحكم حكمهم، والقرار قرارهم.
يتغلغل المستوطنون ليس فقط في مدن كالخليل أو القدس. بل يسعى هؤلاء الثعالب منذ فترة إلى تنفيذ مشروعهم الاستيطاني داخل مدن المركز. يمكن تسميتهم بشتى الأوصاف، لكنهم ليسوا أغبياء، بل هم ماكرون ويجب التعامل معهم كذلك.
يتجول شبابهم مثلاً في شوارع مدن المركز الرئيسية بعنجهية، يتحرّشون بالأهالي ويحملون السلاح المرخص ويلوّحون به علناً واستفزازاً. هدفهم واضح وليسوا بحاجة لإبقائه سراً: تهويد المدن وتضييق الخناق على من تبقى من الفلسطينيين ليتركوا البلد بمحض إرادتهم.
في هذا السياق تحديدًا، يجب فهم العفوية في انضمام شباب من مدن المركز إلى الهبة الأخيرة التي يقودها أهالي القدس. فحراك المقاومة الأخير، من المنظور الفلسطيني على الأقل، ليس دينياً بل وطني، وهو يعكس المعركة الحقيقية، معركة البقاء في المدن عامة ومدن المركز خاصة. وما تل أبيب إلا يافا التاريخية. وهذا ما يفهمه المستوطنون وهذا ما يريدونه.
لنلخّص ما يجب أن يطول الحديث حوله.
ما نشهده اليوم هو حملة جديدة تسعى من خلالها إسرائيل ومواطنوها لتحقيق قديمهم، وهو تنفيذ ما يرونه ملكيتهم الخاصة على الأرض. تحقيقاً لهذه الرؤيا، فإن الخطاب الصهيوني يختبئ أحياناً وراء وعد إلهي، وأحياناً أخرى وراء أيديولوجيات استيطانية كولونيالية علنية. علينا أن نفهم أن إسرائيل التي تتغنى بأنها النجم العلماني المنير في كوكب ديني مظلم، تدرك بينها وبين ذاتها أن علاقتها مع الدين علاقة متينة. حتى الإسرائيليين الذين يعدّون أنفسهم من اليسار ومع منح الفلسطينيين حقوقهم المتساوية، لم ولن يتنازلوا عن فكرة أن الأرض لهم بمفردهم. فكرة المساواة المتداولة لدى نفر من اليساريين هي فكرة خطابية، أي أنها لا تنبع من إيمان صادق بأن للفلسطينيين حقًا تاريخيًا على الأرض. يدرك هؤلاء أن بقاء اليهودي على الأرض مشروط ببقاء الفلسطيني. لكن الأكثرية، استكباراً، ترفض أن تفهم هذا المنطق وهي تحفر قبرها بأيديها إن استمرت بسياسات لا مفر من أن تأخذ المنطقة إلى حرب دينية.
ولنختم بنا.
تبكي فلسطين ألماً، هذا صحيح، ولكنها تزغرد فرحاً لأنها تجمع أطرافها من جديد. إننا نشهد في هذه الأوقات تماماً ولادة مفهوم جديد. فالمدن الفلسطينية تتحول من كونها دليلًا لنجاح الاحتلال إلى برهان فشله الذريع، ومن رمز لانحلال عرى الشعب الفلسطيني إلى تثبيت قوته، ليس فقط للبقاء، بل لبعثه من جديد. قد لا تكون الهبّة الأخيرة ثورةً، لكنّ معانيها بعيدة المدى.