تشاء الصدف، ولسوء طالعي، أن يجاور منزلي موقع الحريق الذي اشتعل في منطقة بشامون خلال اليومين الماضيين. صدفة كفيلة بدفع المرء لمعرفة معنى أن يعيش في جمهوريّة سائبة، ومعنى أن يكون على وشك دفع ثمن هذه الحقيقة بأسوأ الأشكال وأخطرها.
في مشهد الحريق، يجتمع ضعف الدولة بشراهة مفتعلي الحرائق ومصالحهم، وهشاشة حال السكّان أمام الحادث.
ليلة حمراء ملتهبة، تضيء نيرانها شرفات المنازل المحيطة بمكان الحريق. وهج النار أمامك كفيل برسم سيناريوهات لا تنتهي في مخيّلتك: يمكن أن تصبح أنت ومنزلك في لحظة ما محاصراً بهذه النيران، إذا ما قرّرت الريح أن تسير هذه الليلة في الاتجاه الذي لا يساعدك. يمكن لدخان النيران أن يقتلك الليلة بصمت، وها هو قد ملأ أساساً منزلك منذ ساعات. ما يسعفك حتّى اللحظة هو اتجاه الريح، ليس إلّا. بإمكان كل المشهد أن يتغيّر في لحظة، إذا ما قرّرت الريح أن تسير في الاتجاه المعاكس.
يصعب وصف الشعور الذي يدفعك للبقاء في بيتك. حتماً، لا ينطوي البقاء هناك على أي دافع للمقاومة أو الصمود، أو حتّى إبداء الشجاعة في هذا الموقف، طالما أنّك لن تقدّم أو تؤخّر في هذا المشهد، وطالما أن وجودك لا يعني سوى تحمّل مخاطر البقاء. قد يكون الدافع الوحيد خشيتك من الأفكار السوداء التي ستظل تراودك، بمجرّد ابتعادك عن المشهد وعدم معرفتك بمصير المنزل الذي عملت عليه لسنوات.
بعد قليل، تبدأ ملامح التسيّب الذي يحكم أي أزمة في هذه البلاد: سيارات الدفاع المدني غير كافية، لا من حيث العدد ولا التجهيز، ولا المحروقات. تبدأ الدعوات لصهاريج المياه الخاصّة الموجودة في المنطقة للتوجّه إلى مكان الحريق، ثم تبدأ الدعوات لأصحاب المباني المجاورة لتسليم مياه خزّاناتهم لهذه الصهاريج. حتّى وزير البيئة نفسه، انضمّ إلى قائمة المنادين بهذه الشراكة المأسويّة بين القطاعين العام والخاص عبر تويتر.
الدولة ترفع العشرة. والساحة باتت متروكة لشهامة أصحاب الصهاريج الخاصّة في المناطق المحيطة، بعد أن جاءت دعوتهم للمساعدة من فوج الإطفاء نفسه. الطريف في المسألة أنّ الدولة وفوج الإطفاء يناشدان أصحاب الصهاريج لتأمين المياه، في منطقة مُحاطة بعشرات الآبار التي يهيمن عليها كارتيل هذه الصهاريج بالذات. ثم سرعان ما يتحوّل الموقف إلى بازار انتخابي، ويصبح عرض صور «أنصار» بعض القوى السياسيّة قرب الحريق «للمساعدة» مناسبةً للدعاية الانتخابيّة.
وسائل الإعلام التي نشرت الصور، واستعراضات القوى السياسيّة، لم تشعر بأدنى خجل من استثمار مأساة بيئيّة بهذا الحجم، في عراضة انتخابيّة فارغة.
يشير المدير العام للدفاع المدني نفسه إلى أن الحريق مفتعل. هذا النوع من الحرائق غالباً ما يلتهم الأراضي المرشّحة لمشاريع البناء، والتي يدفع أصحابها رسوماً مقابل قطع الأشجار فيها. وككلّ حريق، يتناقل السكّان هويّة هذا المستفيد من الحادثة أو ذاك، دون أن تسمع عن أي تحقيق أو توقيف لاحقاً. فمن يملك الجرأة على اقتراف حريق من هذا النوع، يملك حتماً الغطاء الذي يحميه من أي مساءلة.
صباح اليوم التالي، تدير ظهرك للمشهد المأسويّ وتغادر، بعد أن تمّ إخماد النيران ثمّ عادت لتشتعل من جديد بنفس القوّة. تسأم رائحة الحريق، ومشهده، وترحل متأمّلاً أن تعود لتجد منزلك على حاله. تتمنّى أن تسير لصالحك سرعة الريح أو اتجاهها، أو أن تسرع السماء في هبوط الأمطار التي تتوقّعها الأرصاد الجويّة. لكنّ آخر ما تراهن عليه في هذه البلاد هو دولتك.