تحليل لجوء
سمير سكيني

خمسون ظلّاً للعنصرية

29 آذار 2023

كما هو متوقّع، كما هو طبيعي، مع اشتداد الأزمة، يشتدّ الخطاب العنصري، وخطابات الكراهية عموماً. ولمّا كانت الأزمة قد اشتدّت، الأسبوع الفائت، بدرجةٍ غير مسبوقة، فإنّ الخطاب العنصري قد بلغ بدوره درجةً غير مسبوقة.

وسط هذه المعمعة، ما يجدر التوقّف عنده هو أنّه ما من «خطابٍ عنصري»، بل خطابات. وأنّها لا تتساوى ولا تستند إلى الأسس نفسها، بل تتباين في ما بينها. كما يجب مناقشة بعضها، باعتبارها جديرة للنقاش، فيما يُفضّل القفز فوق بعضها الآخر، باعتبارها خبيثة إلى حدٍّ لا ينفع معها النقاش. 

في هذا المقال، أميّز بين خمسة أنواع من العنصرية:

  1. العنصرية القائمة بذاتها
  2. العنصرية كمُغالطة منطقية
  3. العنصرية كبراءة ذمّة
  4. العنصرية التاريخية
  5. العنصرية المؤامراتية

ومن ثمّ، أحاول أن أناقش مسألة اللجوء بذاتها.


1. العنصرية القائمة بذاتها

نبدأ بالأسهل، وهو تحديداً نوع العنصرية الذي نفضّل ألّا نتوقّف عنده مطوّلاً. لنختصر، يمكن اعتبار الباسيلية خير ممثّلة لهذه الفئة. هؤلاء عنصريون لأنّهم عنصريّون. لا داعي لوجع الرأس. يمكننا أن نمرّ على نماذج أخرى من هذه الفئة: نستذكر شربل طربَيه، الشاب الذي عذّب العمّال السوريّين في بلدة العاقورة، مع لفتةٍ إلى تقاطع عنصريّته مع احتقاره للطبقة العاملة.

هذا العنصري هو العنصري الحاقد، الذي تتعدّى عنصريّته حدود بلاده، فنجده ينحاز تلقائياً لنظريّة «الرجل الأبيَض». إنّه أسير وهم «التفوّق العرقي».

نكره هذا النوع من العنصريّين، وهم يكرهوننا بالمقابل. لن يقتنعوا يوماً أنّهم عنصريّون، ولن نقتنع أنّهم ليسوا كذلك. لا بل قد تصل بهم الأمور إلى التباهي، كالقول «نعم أنا عنصري»، ثم الترقيع عبر فراغ القول «عنصري للبنانيّتي» (لا أعلم ماذا يعني هذا الشعار). الخ. وضحت الفكرة أعتقد. يمكننا الآن أن نمضي إلى ما هو جدير بالنقاش.


2. العنصرية كمُغالطة منطقية

هذه أكثر فئات العنصرية انتشاراً، لكنّها أكلت الجو تحديداً مع المحافظ بشير خضر.
سنسلك كلانا، نحن وخضر، درب النيّات الحَسنة. لا نشكّك في نواياه، ولا في انتمائه الوطني. لا نشكّك في نزاهته المهنية ولا في التزامه الوظيفي.
تبدو لافتة رقعة اتّساع خطابه، لكن المشكلة بالتحديد، أنّ خطابه ينطوي على مُغالطة منطقية. لنُجِب على تساؤل المُحافظ: «هل ما قلته عنصري؟»، يمكننا القول نص نص: إنّ المُغالطة بذاتها ليست عنصرية، إنّما ما ينتج عنها، فهو عنصريّ بالتأكيد.

علامَ تقوم هذه المُغالطة؟ إنّها تعرض معطَيَين، كلاهما صحيح (وهنا، المحافظ ليس عنصرياً)، لكنها بعد ذلك تنسج بينهما علاقة غير دقيقة (هنا، يصبح المحافظ عنصرياً)، مثل القول: «اليوم أنا معاشي أقلّ من الي عم يحصل عليه النازح السوري بلبنان».

هذا القول، بقدر ما يبدو منطقياً، بقدر ما هو مغلوط، بالشكل التالي:

  • معاشَك بضعة ملايين ليرة، ويُساوي اليوم عشرات الدولارات، صحيح.
    هذه مشكلتكَ أنتَ مع دولتكَ أنت. مع انهيار الليرة، كل معاشات القطاع العام أصبحت زهيدة، وسبب انهيار الليرة ثلاثون عاماً من السياسات النقدية البالية، التي تحرص على إعادة توزيع الثروة من دربك أنتَ، إلى جيب الطغمة الحاكمة. تأسّس هذا النموذج مع اتّفاق الطائف، تغذّى على الديون مطلع الألفية الثانية، تخلخل عام 2010–2011، وانهار عام 2019. في كل هذه المعادلة، لا وجود لعنصر «اللاجئ/ النازح السوري». المشكلة في مكان آخر.
  • عم يحصل السوري على مساعدات، صحيح.
    هذا شأن السوري مع الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي والمنظّمات غير الحكومية. وقد خُصّصت هذه المبالغ نظراً لأن هؤلاء تهجّروا قسرياً من بلادهم بسبب الحرب. أمّا أنتَ، سعادة المحافظ، فإنّ راتبك هو لقاء عملٍ مأجورٍ تقوم به يومياً، إنّه عقد عمل بالمعنى البسيط للكلمة. في جميع الحالات، لا يمكن مقارنة الرقمَين، فسياقَاهما مختلفان.

هنا إذاً، لدينا معطيان صحيحان، أتبنّاهما أنا بقدر ما يتبنّاهما الشخص العنصري، سوى أنّ الأخير ينسج بينهما علاقة غير دقيقة، فيعتقد أنّه وجد حلّاً لمشكلته. وهذا ما تسعى خلفه ماكينة السلطة في الإعلام: تحييد المشكلة عن مسارها. لذلك، لا نرى المحافظ يقول: «معاشي كذا كذا لأنّ فلاناً فشل في إدارة الشؤون المالية، وفلاناً الذي أُعارضه شريكه، وفلاناً الذي أواليه شريكه أيضاً، وأنّ الطبقة الحاكمة قد تآمرت علينا»، بل يقول: «معاشي كذا، والسوري بيقبض أكتر منه».

لكن المحافظ، للأمانة، يعود في مقابلة أخرى ويصرّح أنّه «لا أحمل النازحين مسؤولية الأزمة التي نعيشها، فنحن نتحمل الجزء الأكبر منها، لكن النزوح فاقم منها». وهذا الموقف لا يتبنّاه كثر من الذين أيّدوا المحافظ في خطابه الأوّل، إذ استغلّوا خطابه لتبرير نظرية أنّ كل الحقّ على السوريّين.

أبعد من المحافظ؛
لدينا مستوى أوسع من نوع «العنصرية كمغالطة منطقية»، وهو مقولة «أخدولنا الشغل من دربنا». هنا لدينا معادلة من معطَيَين:

  1. معدّلات البطالة عالية بين اللبنانيّين. صحيح.
  2. عدد من السوريّين يجدون عملاً. صحيح.

لحدّ الآن، لا تعني المعادلة أنّ النقطة الأولى سبب للنقطة الثانية. لكن أن نقول أنّ النقطة الأولى سبب النقطة الثانية يهوّن الأمور كثيراً ويحلّ معضلة العمل في لبنان.

لكن من طرائف الزمن، مثلاً، أن وضعت وزارة العمل خطّةً لضبط العمالة الأجنبية قبل أن تضع خطّة لتنظيم سوق العمل المحليّ. لا نعلم حتّى اليوم متطلّبات سوق العمل اللبناني، لا نعرف القطاع المفترض أن يتّجه إليه الشباب في شهاداتهم الجامعية، لا نعرف نقابات قدر الحمل، ونعرف بالمقابل أنّ نظامنا يشجّع على الهجرة وتصدير الشباب ويشجّع النموذج الاقتصادي الرَيعي غير المولّد للوظائف. في كل هذه المسائل، لا وجود للعنصر السوري. ومع ذلك، نتجاهل كل هذه النقاط، نتجاهل البطالة البنيويّة بين اللبنانيّين، ونقفز مباشرةً إلى خلاصة أنّ السوريّين أخدوا الشغل من دربنا.

طبعاً، هذا لا يعني أنّ القبول برواتب أدنى بين السوريّين لا يزيد من المنافسة بين العمّال ككلّ، لكن كل الفكرة أنّ حل هذه المسألة يمرّ بتنظيم سوق العمل، كمسؤولية على الدولة، عوضاً عن لوم العمّال الباحثين عن وظيفة كائناً ما كانت جنسيّتهم. وهذا عدا عن البحث في إشكاليّة «العمالة غير الماهرة»، والتوقّف عند مقولة «اللبناني الكلاس» الذي يقبل بوظائف محدّدة ويُكابر على غيرها، وعدا عن التفكير بالعمّال اللبنانيين المهاجرين الذين يُنافسون عمّال الأسواق المحلية في بلدانٍ أخرى— لكنّنا في هذه الحالة نعتبر أنّ هذه «براعة» و«حربقة»، أمّا في السياق اللبناني- السوري فتصبح «سرقة للوظائف» من درب الآخر.

ولمّا يظهر أنّ سورياً قد «أخذ من درب» اللبناني عملاً بالفعل (وهذا الاستثناء)، يحرص النظام على تظهيره وكأنّه القاعدة. وذلك لإخفاء واقع أنّ بطالة اللبنانيين مشكلة عمرها أكبر من عمر النزوح السوري، ولم يجد لها أي من المسؤولين حلّاً، بل حرصوا على إبقائها معلّقة للتشجيع على الهجرة بغية الاستفادة من تحويلات المغتربين— اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولمّا صار النزوح، وجدوا خيرَ مناسبة لحرف المسؤولية عن فشلهم، وإلقائها على عاتق النازح/ اللاجئ.

فإذاً نعم، معدّلات البطالة عالية بين اللبنانيّين. نعم، السوريّون يجدون عملاً (في قطاعات محدّدة للغاية). وما من عنصرية في هذا القول، إلّا أنّ العنصرية تدخل مع الربط التلقائي بين المعطيَين كنتيجةٍ وسبب.
لكن الواقع أشدّ تعقيداً بعد من هذا التبسيط. ذلك أنّ «العنصرية كمغالطة منطقية»، في هذا السياق، تتصرّف مع السوريّين جميعهم قشّة لفّة، وتتجاهل التمييز الجوهري بين السوريّين الموجودين في لبنان تاريخياً كجزء من العمالة المحليّة، والنازحين المستجدّين الباحثين عن عمل. هنا، يُعمّم منطق النظام الإشكالية الأولى على مسألة النزوح ويخلق لغطاً غير دقيق. وسيبدو طريفاً أن نُلاحظ أن أكثر المسؤولين تحريضاً على السوريّين علناً، هم في سرّهم الأكثر فرحاً بوجودهم، كونهم يخلقون رواتب أدنى ويوفّرون كلفة العمل على أصحاب الرساميل.

بالخلاصة، تكرّس السلطة هذا المنطق في التفكير (من خطابات الزعماء إلى المناهج المدرسية للأطفال)، نتربّى جميعنا على التسليم بصواب مواقف منطقية بالظاهر ومغلوطة بالمضمون. تحرص السلطة على ربط معطيات دقيقة (وأحياناً غير دقيقة، هنا عيّنة منها) بشكلٍ غير دقيق. وتفعل ذلك، في سياقنا، لتكوين آراء عنصرية عند الناس وتزخيم خطاب الكراهية. وبالتالي كي تقضي على أي فرصة للنقاش الفعلي بالمعطيات الفعلية دون روابطها المغلوطة.


3. العنصرية كبراءة ذمّة

هذا هو النوع المفضّل عندي.
تتقاطع هذه العنصرية مع نظرية «كبش الفداء» (بالدارج كبش المحرقة). والفكرة من الكبش هي العثور على عجلٍ نذبحه، في سياق طقسٍ قَبَلي ينتهي بأن نكون جميعنا قد حلّينا خلافاتنا الداخلية عبر التضحية بهذا العجل. عبر توجيه عنفنا الداخلي إلى ضحيّة من خارج الجماعة الأهلية. يعني، من جهة، تحييد المسؤولية عن ذاتنا، ومن جهة أخرى، إيجاد تنفيسة للعنف الذي ننتجه وينتجنا.

مواصفات هذا الكبش دَقيقة للغاية. له شروط ولا يمكن أن نجعل من أي شخصٍ كبشاً للمحرقة. شرطه الأساسي أن يكون يشبهنا ولا يشبهنا في نفس الوقت: يشبهنا بما يكفي كي نشعر أنّنا إذ نقتله، فإنّنا نضحّي بشيءٍ ما بالفعل؛ ولا يشبهنا إلى درجةٍ لا نشعر فيها بالذنب إن قتلناه. يجب أن يكون الكبش إذاً على هامش المجتمع، لا أن يكون غريباً بالمطلق، ولا أن يكون من صلب المجتمع بالمطلق. ما بين بين. والسوري يركب تماماً في هذا الدور نسبةً للبناني.

خلاصة هذه النظرية تحييد «السوء» عنّا. نحن لا يمكننا أن نكون سيّئين، نحن لسنا عنيفين، لسنا أشراراً. وإن وُجِدَ شرٌّ في المجتمع، فسببه الآخر بالتأكيد. «الآخر» هو العنيف، هو الشرّير، هو الذي بدأ. و«الآخر»، في هذه الحالة، هو السوري. هذه العنصرية تُختَزَل بأنّ اللبناني لا يمكن أن يتصوّر نفسه شرّيراً، بعد عقود من إيديولوجيا النظام التي عوّدته على كونه أرقى من المجتمعات المُحيطة به، أقرب إلى الغرب مثلاً، أكثر تحضّراً، يتكلّم بثلاث لغات، متمدّن… فكيف يمكنه أن يكون عنيفاً؟ العنصرية هنا مجرّد صكّ لتبرئة الذمّة.

هكذا ازدهرت في ستينات القرن الماضي نظريات «الآخر»، «الغريب الذي سرق الجرّة»، «حرب الآخرين على أرضنا». هناك فئة لا تزال تُكابر حتّى اليوم على العنف الموجود داخل جماعاتنا الأهلية اللبنانية، وتعتقد أنّها منزّهة عن العنف وأنّ اللبناني كائن غير عنفي. «الآخر» هو العنفيّ، وغالباً ما نتجاهل أنّنا نحن هذا «الآخر».


4. العنصرية التاريخية

هذه سهلة.
توجد فئة من العنصريين لا تربطها أي علاقة بالفئة «المُعنصَرة». وربما، ما كانوا يوماً على تماسٍ مباشر مع هؤلاء الأشخاص. هم فقط عنصريّون لأنّ حدثاً تاريخياً ما حصل مع هذه الفئة، والأرجح أنّه حصل في سياق زمني وتاريخي واجتماعي مختلف. مثلاً: الدور السوري في الحرب الأهلية في لبنان، لكن أيضاً وتحديداً، الاحتلال السوري ما بعد الطائف.

هذه العنصرية التاريخية تنطبق على شريحة واسعة مثلاً من جمهور القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. ممكن ألّا يكون المُناصر الحديث على أي تماس مع أي سوري، لكنّه، بسبب فترة الاحتلال السوري، يحقد على السوريّين. هذا الحقد مفهوم— جزئياً. ولكنه مغلوط جزئياً. مغالطته الأساسية أنّه يُماهي بين الشعب والنظام (وذلك في أكثر حالة فاقعة على تعارض الشعب مع النظام). فلأنّ النظام السوري احتلّ لبنان، يسمح صديقنا لنفسه بأن يتعنصر على الشعب السوري عموماً؛ علماً أنّنا، لو نُريد من النظام السوري شبراً، فإنّ معظم الشعب السوري يريد من النظام السوري عشرة أشبار.
لكن نفهم أن هذا العنصري تحديداً لا يمكنه أن يطال النظام، ولا حلفاء النظام. لا قدرة له ولا حجم ولا تمثيل يكفي. فيتطاول، بالوكالة، على الشعب.

أوسع من ذلك، هذه العنصرية التاريخية موجودة أيضاً تجاه الفلسطينيّين، وعلى درجة أكبر من التعميم. يمكن أن يلتقي اليوم لبنانيٌّ مهاجر إلى فرنسا بفلسطينيٍّ يعيش هناك منذ عقود، وأن يُمارس عليه كامل عنصريّته. دون أي ربطٍ فعلي بين الطرفَين.

عنصرية تاريخية مستحدثة

اللافت، أنّ هذه العنصرية التاريخية تجاه السوريّين، ربطاً بالاحتلال ما بعد الطائف، نشأت مقابلها عنصرية حديثة.
هنا، حزب الله هو الذي عزّز وغذّى هذه العنصرية المستجدّة، تزامناً مع دخوله إلى سوريا. يكفي التذكير بهجمة عام 2014، لمّا لم يجد أهالي الضاحية الجنوبية حرجاً في الاعتداء على عمّالٍ سوريّين، وحتّى طعنهم، وذلك قبل زمنٍ طويل من عنصرية اليمين المسيحي تجاه السوريين. يُضاف إلى ذلك آلية تعاطي الحزب مع السوريّين في الضاحية، فنفهم أنّه الأكثر راديكاليةً في العنصرية ضدّهم.

لماذا؟
لأنّ العنصرية تنطوي على التحقير. ولأن التحقير مطلوب لتسهيل القتل. أن يقتل عناصر من حزب الله سورياً مُعزّزاً مُكرّماً، أصعب بكثير من قتل سوريٍّ حرصوا على تحقيره. تبدو لافتة موجة العنصرية هذه وتزامنها مع دخول الحزب إلى سوريا، كما تبدو غريبة: كيف تكون عنصرياً تجاه من تدّعي المشاركة في حربٍ لحمايته؟ فيديوهات التنكيل بالسوريّين التي شاهدناها أيّام هواتف النوكيا كفيلة بتأكيد ذلك. استسهال عناصر حزب الله للتنكيل وإذلال السوريّين المُحتجزين عندهم مُخيفة.


5. العنصرية المؤامراتية

هنا العنصرية تأتي كنتيجة الغرق في منطق المؤامرة. دائماً ثمّة مؤامرة تُحاك علينا، ودائماً نحن ضحيّتها. حتّى أنّ هذه الفئة من العنصريّين، لن تستطيع النظر إلى هذا المقال إلّا كمادة مموّلة من شيطانٍ ما بهدف إلى توطين السوريّين مثلاً. سأصبح أنا، كاتب المقال، صحافياً أصفر يقبض من سفارةٍ ما دولارات غريزة من أجل كتابة هذه المادة.
ولا كأنّني، دون أي مبرّر، أطالب فقط بحياةٍ لائقة لهؤلاء.

مشكلة هذه الفئة من العنصرية أنّها لا تفهم الانحياز للمهمّش إلّا كشبهة— فهو مهمّش و«رخيص»، لِمَ التضامن معه؟ وهي لا تفسّر أي دفاع عن أي فئة مهمّشة إلّا كمؤامرة (غالباً ما تكون مؤامرة غربية). ينسحب هذا المنطق على كافّة الفئات المهمّشة. الدفاع عن مجتمع الميم– عين مؤامرة لتغيير قيَمنا، والدفاع عن النساء مؤامرة لضرب الرجل العربي الشهم، والدفاع عن السوريّين مؤامرة لتغيير الديموغرافيا. وهذه المؤامرة كفيلة بتفسير كل جوانب المسألة، ولا كأنّ هذه الفئات مُهمَّشة بالفعل.


النقاش

بطبيعة الحال سنجد معترضين على الوجود السوري في لبنان من خارج هذه الفئات الخمسة، إذ يبدو أنّ ظلال العنصرية لا تنتهي. كما يمكن أن معترضين على هذا الوجود من خارج هذه الفئات، لكن هؤلاء قلّة، قلّة تحاول أن تبحث بحقّ عن تعقيدات الوضع دون حقدٍ أو كراهية أو أفكارٍ مسبقة، دون استعلاء، ودون تبريرات لا طائل لها، دون ردّية «أنا مش عنصري، بس…». بس شو؟
بس الوضع صعب؟ نعم الوضع صعب.
الأزمة تشتدّ؟ نعم الأزمة تشتدّ.
لكن كيف نخرج من أزمتنا ونعوّض التهميش الذي تعرّضنا له في الأعوام الأخيرة، دون أن نهمّش الآخرين؟ لا داعي هنا للدخول بترّهات «العودة الآمنة». من يعرف نظام الأسد بحقّ، يعرف ألّا عودة آمنة بالمدى المنظور. ولا عودة آمنة فعلاً، إلّا بالحل السياسي المُنتظر الذي سيحدّ من صلاحيات الأسد، ويضمن عودةً آمنة بالفعل لجميع السوريّين.

فما العمل؟ كيف نتعاطى مع «النزوح/ اللجوء»؟ أوّلاً، فلنحدّده. هذه الكتلة التي اسمها «السوريّون»، هل من دراسة فعلية أعدّتها الدولة التي تحرّض عليهم، كي تحدّد من هو «النازح»، من هو «اللاجئ»، من هو «القوى العاملة السورية»، من هو «المُقيم» العادي الذي مضى على وجوده في لبنان عقود…؟ كيف يتوزّع هؤلاء؟ ما أوضاعهم الطبقية؟ لا جواب، فقط أرقام بِلا مصدر، تتناقض في معظم الأوقات، لكنها تكفي لإشعال الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي.

ثانياً، الحل. أو بالأحرى، «بحثاً عن الحل». عند مين هو هيدا الحل؟ تحديد الحل يعني تحديد المسؤوليات. وتحديد المسؤوليات يعني «خلع القفازات»، كما يقولون. هل النظام اللبناني، بانهياره الحالي، يريد بالفعل التخلّي عن السوريّين؟ أشكّ. تحديداً لناحية الاستفادة منهم كمصدرٍ لدخول الأموال إلى البلد (نفس النظرة تجاه المغترب اللبناني)، كما لتشكيلهم قوى عاملة رخيصة. طيب، إذا القوى العاملة هذه تهدّد عمالة اللبنانيين، هل الدولة مستعدّة أن تصدر مرسوماً يقضي برفع راتب العامل السوري، ليصبح مساوياً لراتب العامل اللبناني— هكذا تنتفي المنافسة بينهما؟ أيضاً أشكّ. هناك شيء من «الازدواجية الاقتصادية» في خطاب النظام عن هؤلاء.
عوضاً عن تنظيم أمور النازحين، منذ العام 2011، تعمّدت الدولة ترك الأمور لعشوائيتها، وجعلت في إعلامها كل حديث عن «تنظيم» يساوي الحديث عن «توطين»، وقضت، بذلك، على كل المساحة الحيويّة بين المسألتَين.

المسؤولية أيضاً تتعدّى الدولة اللبنانية. فالنظام السوري، بدوره، مطالب بحدٍّ أدنى من التنازلات. أقلّه، أن يتوقّف الأسد عن النظر إلى هؤلاء كمجرّد ورق تفاوض مع المجتمع الدولي. وأن يُعالج الحل السياسي المُنتظر، شؤونهم بجدّية. فلمّا نقول: «يرجعوا ع بلدن»، تبدو هذه اللفظة طريفة، فارغة من المعنى. لا بلد هناك. لا أملاك لهم، لا بيوت، بيوتهم دُمّرت أو صادرها الشبّيحة. خطر الموت ما زال قائماً. فهل فكّر هذا النظام أو هذا المجتمع الدولي، بسبل عيش النازحين في سوريا لدى عودتهم؟ أو هكذا يعودون و ينصبون خيمة من جديد وينتظرون الشتاء المقبل كي يجرفها؟

لا أعلم، ولا أدّعي أنّني أملك حلّاً نهائياً لمشكلة بهذا التعقيد. لكنّي أعلم، أنّ «هؤلاء»، بني آدمين، يحقّ لهم حدّاً أدنى من الحياة الكريمة. كما أعلم أنّ مأساتي المستجدّة كلبناني، لا تخوّلني أن أمارس فوقيّتي على مهمّشٍ آخر، فقط لأنّني «إذا ما قدرت على التيس بقدر ع العجل». كما أعلم، أنّه يمكن للمرئ أن يقول، في الوقت نفسه، أنّه يجب تنظيم الوجود السوري في البلد، ويتمنّى، في الوقت نفسه، عودتهم الآمنة إلى بلدهم، ويُدرك، في الوقت نفسه، أنّ هذا التمنّي غير متوفّر حالياً. فما العمل، جدّياً، من خارج ظلال العنصرية الخمسين؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر