منذ موت سارة حجازي تتالت التعليقات المليئة بخطاب الكراهية. بعضها تهديد صريح بقتل بعض الناشطين/ ات الكويريين/ ات، وهذا ليس بجديد في مجتمعات لا يزال إعلامها يبثّ العنف والحقد بحقّ مجتمع الميم، ولا تزال أنظمتها السياسية تمارس أشدّ العقوبات بحقّ أفراد لا يبحثون سوى عن أنفسهم ويعبّرون عن هوياتهم الطبيعية. لكنّ اللافت هو ما تضمره هذه التعليقات من عقليّة جمعيّة تهمّش الفرد، لا بل تحتقره. تدعو إلى إبادته (نفسياً ومعنوياً وجسدياً)، إن لم يلتقِ مع مفاهيم مجتمع الأمّة وتقاليد الغالبية وعقائدها.
هكذا لم يعد موت سارة يتمثّل بمجتمعها الضيّق، ولا بهويّتها الجنسية أو بنضالها السياسي والنسوي والكويري، بل بات نسقاً مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بأنساق الفرد العربي الحديث. هذا الفرد الذي يعاني من خروجه عن الأمّةـ الجمهورـ الغلبة، من التهميش والإذلال والملاحقة والأذى والازدراء، ويجد نفسه أمام احتمال الموت. إمّا أن يقتله الآخرون وإمّا أن يتحرّر من قتلهم، فينتحر.
يشكّل موت سارة نوعاً من الاعتراض السياسي على ديكتاتوريّة الجماعة ومفاهيم قبليّتها، ويؤسّس رمزياً لاعتراض الفرد العربي، المختلف عن جماعاته الأولى (الأسرة، العائلة الممتددة، القبيلة، الجماعة المذهبية، الطائفة)، ثمّ الفرد المختلف عن جماعته السياسية والفكرية. فيتمسّك بحريته ولو ببُعدها الراديكالي، مستبقاً فعل الموت نفسه، تاركاً لنفسه خيار المعارضة على نوع الحياة وشروطها، مختاراً الانتحار، بعد أن تفشل كل محاولاته للمواجهة، وبعد أن تصل معاركه الشخصية والعامّة إلى جدران وسجون باسقة لم يعد القفز فوقها ممكناً.
فيصير القفز فوق الحياة نفسها إلى الضفّة الأخرى عبر وسيط الانتحار، قفزاً رمزياً فوق الديكتاتورية والتسلّط والتهميش.
سارة بما تمثله كفرد عربي منفي، ويعاني من منفاه الداخلي من العنف والأذى والملاحقة والتهديد والسجن والتحرّش، فإنها تتقاطع مع أزمات الفرد العربي الحديث. ذاك الفرد المعنّف من قبل السلطة السياسية والعسكرية، والمعرّض لشتى أنواع التعذيب والتصفية، والمقموع تحت أنظمة اقتصادية تفقره وتهمشه وتقتله كل يوم بشتى أنواع الاضطهاد، والمنفي في دوائره وداخل عائلته وأصدقائه والمكافح من أجل العيش.
لذا، فإنّ موت سارة لم يعد يخصّها وحدها، أو يخصّ جماعتها، ولم يعد مربوطاً بهويتها الجندرية، بل صار قضية عمومية، تخصّ الفرد العربي الحديث في مواجهة الفرد العربي القديم. ذاك الذي يقيم في ذهنية جماعته القبلية والدينية وضمن نزعتها إلى محو ذاتيّته، وقتل فرادته ونزع الخيال منه، وتجريده من صوته الخاص. الجماعة التي تعززها بقوة ما يسمّى «المجتمعات الإسلامية»، على تفرّق مذاهبها ومدارسها، حيث الفرد المسلم الخارج عن طواعية الفقهاء وتفسيراتهم وسلفيتهم العامة، هو فرد بمفهومها يستحقّ القتل والنفي والاستبعاد والسحق، وفي أحوال ما قرأناه من تعليقات، يستدعي تكفيره.
كأنّ صكوك الغفران توزَّع على قياسات هذه الجماعات. لكنّ موت سارة أبرز أنّ حضور هذه الجماعات لم يعد بقوّته السابقة، كما كان متوقّعاً منذ أعوام. لهذا برز النقاش راديكالياً إلى السطح بكل رهابه وعنفه، كنوع من الدفاع عن مفاهيم لم تعد صارمة كالسابق. بل صار التفكير بها وتحليلها وازدراء بعضها مباحاً. وهو ما نراه من استخدام «المناصرة» لدى أفراد من مجتمعات عربية مختلفة، لقضية سارة ونضالها، مشرّعين الأبواب إلى نقاش أوسع أقلّ صرامة رغم الخوف الشرس المنتشر على مواقع التواصل، من المثليين والمثليات والعابرين والعابرات جندرياً، ورغم التنمّر والتهديد والوعيد.
مكّننا موت سارة اليوم، قبل أي لحظة أخرى، من اعتبار الكويريّة بمكوّناتها الواسعة، نقاشاً حياً سيمهّد لتغيير قادم، لثورة الفرد العربي الحديث.