حاولتُ النجاة وفشلت إلى العالم: كنت قاسياً إلى حدّ عظيم ولكنّي أسامح
رسالة منسوبة إلى سارة حجازي، ناشطة كويريّة انتحرت في كندا
تحت كلّ كلمة شخصٌ ميت
مجهول
لقَتَلة سارة حجازي أجسامٌ تعبر بيننا كلّ يوم. تتحرّك متباطئة. تضحك. تمشي وسطنا. تلقي التحيّات. تنام بهناء. وتضع ماسكات خوفاً من كورونا.
للقتلة رؤوس مرتفعة. باسقة لا خوف فيها، لأنّ القتلة لا يخافون في بلادنا.
للقتلة في بلادنا أيدٍ طويلة متمدّدة في حشوات قلوبنا ومعداتنا وفي جماجمنا.
للقتلة مريدون ومنظّرون ومصانع ومؤسّسات وعساكر وأبنية شاهقة ومفكّرون وساسة وعلماء نفس ومهنيّون.
للقتلة كتبة ومدوّنون ورجال قانون يغالون في تبرير القتل.
للقتلة حساباتٌ على فايسبوك وتويتر وإنستغرام وليندكن، يمارسون قتلهم بكلمة أو عبارة أو بفيديو. يقتلون بالكره والغيظ كلّ يوم مئاتٍ من أمثال سارة. نساء ورجال وأطفال. مثليّون ومثليّات وعابرون وعابرات جندرياً، ومغايرو الجنس وضعفاء لا مؤسّسات تحميهم ولا مساحات تأوي عزلاتهم وتخفّف عنهم.
للقتلة بيوت عبادة وشققٌ للنوم وأماكن لهو، وشوارع ينمو فيها الموت والحقد. للقتلة يوميات عادية، وأرجل تمعس كلّ من لا يشبهها.
للقتلة وجوهٌ تتبدّل.
في بلادنا نولد للقتل. نُجهَّز كي نذبح. بكلّ الأشكال النفسية والمعنوية. وحين ننجو تقتلنا المنافي الباردة التي نعيش فيها. أو يقتلنا قلقنا وشعورنا بالوحدة.
في بلادنا التي نقاسي في حبّها وكرهها، نجدنا أمام الموت وجهاً لوجه. منذ اللحظة التي نكتشف فيها أنّنا لا نشبه أحداً. وأنّنا مدانون بهوياتنا وأفكارنا وطرق عيشنا فيما بعد. ومدانون بأشياء لا نختارها. وأشياء نختارها لاحقاً. ونُجرَّم لكوننا نحيا. كأنّ لا حقّ لنا بالعيش، ولا بالنجاة ولا الهرب ولا بالموت حتّى، إن لم يكن الموت على قياس القتلة. أي أن تكون مذبوحاً، مسجوناً أو محروقاً أو مرميّاً من شاهق. أو ببساطة مقتولاً وأنت تتنفّس وسطهم.
يرون جثّتك تمشي بينهم وأمامهم وينكّلون بها. بنظراتهم وأحكامهم وعنفهم وضربهم وضحكاتهم وهزئهم. إن لم تمت جسدياً، يُنكَّل بك بكلّ الطرق الأخرى، بالتنمّر والعنف النفسي والازدراء والنبذ والتهميش. وإن هربتَ منهم وتركتَ كلّ شيء خلفك يلاحقونك.
نحن نعيش وسط القتلة. نولد في بيوت أهلنا ونُقتَل بينهم. أهلنا أوّل من يقتلنا في هذه المنظومة. يحملون سكاكينهم علينا كلما اكتشفوا هوياتنا الجنسية. وللعائلات العربية فنونها في القتل. في أحسن الأحوال نُرمى في الشارع لأننا نعبّر عن حبّنا، وقد نُقتَل على أيديهم ونوضَع تحت خانة الشرف أو غسل العار.
لكلّ جريمة في بلادنا حجّة وكفن. ولكلّ موت في بلادنا هوية، إلا موت المثليين والمثليات والعابرين والعابرات جندرياً في بلادنا، فهو نجاة.
حين نموت في بلادنا ننجو.
سارة حين كتبت رسالتها المفترضة، قالت إنّها حاولت النجاة لكنها فشلت. هي نجت من السجن والاعتقال والتصفية الجسدية والنفسية ونجت من الحدود والبعد والمنفى. وحين حاولت أن تعيش، لم تنجُ. لأنّ فعل عيشنا بعد كلّ هذه المرارة مهمّة ثقيلة ومتعبة.
مَن يعرف ما يقاسيه المثليون والمثليات والعابرون والعابرات جندرياً، يفهم أنّ الرحلة لا تنتهي. حتى لو صرنا في بلاد تحترم رغباتنا ولا تنظر إلى عيوننا المربكة في الطرقات. وحتى لو وجدنا الحب.
نحمل ظلال القتلة معنا. نراهم في كلّ شيء. في كوابيسنا وأحلامنا العادية. نقرأ عنهم ويكتبون لنا. يلاحقوننا على حساباتنا الافتراضية، يدمّروننا بكلّ أسحلتهم.
القتلة ليسوا فقط نظاماً سياسياً واقتصادياً وقانونياً ومجتمعياً، القتلة نراهم كل يوم بيننا. بعض المثليّين والمثليات والعابرات والعابرين قتلةٌ بحقّ بعضهم. بعض الجمعيات التي تنادي بحقوق مجتمع الميم من زمرة القتلة أيضاً. بعض النساء والأمّهات قتلة.
القتلة بيننا ومعنا.
حين نموت في بلادنا أو خارجها ننجو.