تستيقظ في الرابعة فجراً على ما يشبه الزلزال. غرفة النوم كلّها ترتجّ، كأنّما عملاق يُخضخِضها. سأموت الآن، تقول لنفسك، لكنّك تبقى حيّاً.
ثمّ تتذكّر في أيّ زمن أنت، فتدرك أنّ احتمال حصول غارة إسرائيليّة أكبر بكثير من احتمال حدوث زلزال. إنّها قريبة، قريبة جدّاً، تُفكِّر.
تنهض من السرير مترقّباً غارة ثانية، لكنّها لا تأتي. تمسك هاتفك: بحثٌ محمومٌ عن الأخبار. منطقة البسطة. حوالي عشر دقائق سيراً على الأقدام، تُفكِّر.
كلبتك هلعةٌ، لقد اختبأت تحت السرير.
تخرج من غرفة النوم وتذهب إلى الشرفة. تشعل سيجارة. الخوف يجعل طعمَها طيّباً. كانت ضربة قويّة. أقوى من تلك التي حصلت قبل بضعة أيّام، على مسافة خمس دقائق سيراً على الأقدام. هكذا صرت تقيس المسافات التي تفصلك عن الغارات.
بحثٌ محمومٌ عن الأخبار. المرجّح أنّها عملية اغتيال. قيادي في حزب الله. مبنى سُوّي بالأرض. ثلاثة صواريخ أو أربعة. تتذكّر كلبتَك المذعورة. تبحث عنها. إنّها مختبئة في الحمام. بات مكانَها المفضّل منذ شهر أو أكثر.
تخرج إلى الشرفة مجدداً، تشعل سيجارة ثانية. طعمها لا يرقى إلى طعم الأولى. لماذا وُلِدْتُ هنا؟ تتساءل. لماذا قُدِّر لي أن أكون لبنانيّاً؟ تعلم أنّ هناك من يعانون أكثر منك، في لبنان وفي أماكن أخرى. لكنّ هذا لا يهمّ الآن. ففي هذه اللحظة، لا يمكنك أن ترى كونَك لبنانيّاً سوى كلعنة.
سيجارة ثالثة ومزيد من الأخبار تتدفّق على شاشة الهاتف فيما تذرع الشرفة جيئةً وذهاباً. بضع رسائل نصيّة من أهل وأصدقاء يطمئنّون عليك. يُقال إن المستهدف هو نعيم قاسم، ويُقال إنّه قياديٌّ آخر لم تسمع به من قبل. لكنّك لا تبالي كثيراً بمن هو المستهدف.
لماذا وُلِدتُ في لبنان؟ تتساءل من جديد. لماذا في الشرق الأوسط؟ ثمّ سيجارة رابعة. طعمها كريه.
عليّ مغادرة لبنان، تقول لنفسك. أو أقلّه مغادرة بيروت. لكنّك تعلم أنّك لن تفعل هذا ولا ذاك. لا بدّ، إذاً، أنّ ما يربطك بهذا المكان هو ضرب من ضروب المازوشيّة.
مضت نصف ساعة. إنّها الرابعة والنصف. ليل هادئ. لا عنين مسيّرات. زال الخوف تقريباً. حلّ محلّه قرفٌ ممزوج بالتعب. تتفقّد الكلبةَ. إنّها في غرفة النوم. مسترخية على وسادتها. إلى الشرفة مجدداً، وإلى السيجارة الخامسة.
ممَّ أشعر بالقرف؟ تتساءل. مِن نفسك. تقرف من نفسك. فالحرب جعلت منك كائناً يخاف باستمرار. يخاف على حياته. والخوف المستمرّ هذا يثير اشمئزازك. خوف تكاد تشمّ رائحته العفنة الكريهة. خوف يُلازمك ليل نهار، في الصحوة وفي المنام. وحتّى عندما لا تشعر به، فإنّه يبقى ماكثاً في أعماقك، مُختبئاً وراء اشمئزازك من نفسك.
تخاف على حياتك باستمرار ولكنّك، في الآن عينه، مقتنعٌ بأنّك ستنجو. بأنّك لن تموت في هذه الحرب. تدرك كم أنّ هذه القناعة غير منطقية، لا بل تافهة ونرجسيّة، إلّا أنّك مهما حاولت لا تستطيع زحزحتها قيد أنملة. هي تبقى متجذّرة فيك كأنّما أنت تراب وهي شجرة سنديان. يمكنك أن تتخيّل نفسك جريحاً جرّاء غارة، لكن لا يمكنك أن تتخيّل نفسك ميتاً. وبالرغم من ذلك تخشى على حياتك باستمرار.
السيجارة السادسة. ما زلت تذرع الشرفة جيئةً وذهاباً. وما زالت الأخبار تتدفّق على شاشة هاتفك. جرحى. شهداء. هذا القيادي أو ذاك. تسمع صفّارات الإسعاف تقترب ثم تبتعد. رائحة حريق قويّة. وها قد أتت المسيّرة. لقد اعتدت عنينها حتّى بات صوتاً أليفاً. يُهدهدك أحياناً وأنت تغفو. تنظر إلى البنايات حولك. قليلة هي الشقق المُضاءة. يبدو أنّ معظم السكان عادوا إلى النوم. لعلّهم استيقظوا لربع ساعة فقط، ثمّ عادوا إلى النوم. فالغارة هذه، مع أنّها زلزلت العاصمة، لا تستحقّ أكثر من ربع ساعة من اليقظة. فهي من عاديات الحياة اليوميّة. أمّا أنت، فما زلت مستيقظاً منذ ساعة تقريباً. إنّها الخامسة فجراً. إنّها السيجارة الثامنة أو التاسعة. حان وقت العودة إلى النوم.
تدخل إلى غرفة النوم. كلبتك لا تزال مسترخيةً على وسادتها. تستلقي على السرير وتغفو بعد دقائق قليلة، يُهدهدك عنينُ المسيّرة.