لا شيء يفصل الضاحية الجنوبية عن بيروت. لا حدائق ولا مصانع ولا مواقف باصات. تدخل إليها من أطراف العاصمة عبر زاروب أو مفرق مفاجئ قرب محطة بنزين، أو تنفذ نحوها بين مسجد أو حسينية ومحل تصليح سيارات. تراها ممتدّة بموازاة طريق المطار، وتعبر مداها البحري، بعد منطقة الجناح في محلّة الأوزاعي، حيث تحوّل المؤقّت إلى دائم، وحيث الدائم يبدو بين الحين والآخر مُقبلاً على مشاريع لا تتحقّق.
لا شيء يفصل الضاحية الجنوبية عن بيروت. لكنّها ظلّت على الدوام «الضاحية». ذلك المكان الذي توسّع ببطء على مدى عقدين قبل الحرب الأهلية، لتتسارع إيقاعات توسّعه بعد اشتعالها، ويصبح النزوح الجنوبي العظيم إليه واقعاً فرضته الاجتياحات الإسرائيلية ابتداءً من العام 1978.
هكذا، جمعت الضاحية خلال نصف قرن «سكاناً أصليين» (ولاجئين فلسطينيين) بنازحين اقتصاديين من الجنوب والبقاع وبمُهجّرين من العمق الجنوبي احتلّت إسرائيل وعملاؤها قراهم ومدنهم، فكانت عودتهم إليها لاحقاً عودةً صيفية أو موسمية، لا تعوّض مقام الضاحية وألفة شرفات مبانيها وكثافة بشرها وكراسي البلاستيك البيضاء المنتشرة أمام متاجرها ومحلات السندويشات فيها.
لا شيء يفصل الضاحية الجنوبية عن بيروت. لكنها تبقى الضاحية، المسيّجة بصوَر شهداء وبيافطات ورايات وأعلام تحتلّ الفضاء العام وتُشهر هوية المسيطرين على المكان وعلى حقل اللغة ورموزها فيه منذ العام 1987، حين انتهت «حرب الأخوة» بعد «حروب المخيّمات الفلسطينية» بفصلٍ رمزيّ للشياح عن باقي الأحياء. ونمت منذ ذلك الحين مؤسسات وهيئات ومدارس وجمعيات ونوادٍ رياضية، ورُفعت شعارات واعتُمدت تسميات، بدت كأنها في ذاتها حدود المكان غير المرئية عمراناً وهويّته المختلفة عن هويات الأمكنة المجاورة له. بدت كأنها أسوار ولّدتها الكلمات والألوان ونظرات عيون الشبّان المعلّقة صورهم على الجدران وعواميد الكهرباء المقطوعة غالباً، كما قُطعت أعمارهم في مواجهاتٍ لم تنتهِ مع إسرائيل أو دفاعاً عن النظام السوري وعن الحليف والراعي الإيراني.
لا شيء يفصل الضاحية الجنوبية عن بيروت. لكن الناس فيها، ببيوتهم وأسرار جدرانها، بقصصهم وأحلامهم ودفاترهم وألعاب أطفالهم، بأزقّتهم الضيقة وبالشوارع العريضة واللافتات المرفوعة على مفارقها، حُمّلوا أكثر من طاقتهم، وأكثر من طاقة الباطون على الاحتمال. منهم من فُرض الأمر عليه، ومنهم من ارتضى ذلك، وارتضى التضحيات والعداوات وغرور القوّة، وصار نموذجاً يصبو إليه مقلّدون مفتونون أو كارهون من خارج «بيئته» وأئمتها.
لا شيء يفصل الضاحية الجنوبية عن بيروت. هكذا كان يبدو لكثرٍ مثلي رغم تعذّر زيارتها، أو لنقل تجنّب ذلك منذ عشرين عاماً. لكن الضاحية اليوم تبدو يتيمة. تبدو وحيدة. تبدو جزيرة ولَو بلا بحر أو مياه تحيط بها.
ننظر إليها من بعد، نراها على الشاشات والبث التلفزيوني يسلّط الكاميرا عليها مُعلناً أنه يلتقط الصور «من محيطها». ننظر إليها بعد أن حذّر مهرّج معتوه على وسائل التواصل الاجتماعي من أن جيشه سيضرب هذا أو ذاك من أحيائها. ننتظر تصاعد النيران والدخان على «الهواء مباشرة» أو بالأحرى سقوط السماء على دفعات على تلك المساحة الممتدّة أمامنا، بين المطار وأضواء بيروت الشاحبة، أو بين «الجبل والساحل» على ما تقول الجغرافيا...
أمرّ في منطقة الطيونة ليلاً، بين حرج بيروت وخيم رجال الإطفاء والإسعاف، أنظر الى مدخل الضاحية ولا أرى شيئاً واضح المعالم يفصل بيني وبين رقعة الموت التي تبدأ على مسافة أمتار قليلة.
أنظر إلى مدخل الضاحية وأخشى أن تبتلع الأرض فجأة ما أراه، كما تبتلع السينما مدناً في أفلام الخيال العلمي.
أنظر إلى مدخل الضاحية، ولا أرى خطّ تماسٍ كذلك الذي اعتدتُه خلال الحرب بين الشياح وعين الرمانة، وبين البربير والمتحف، وبشارة الخوري والسوديكو. أرى عتمةً ووحشةً مخيفة في ذاتها، وفي احتمالاتها. احتمالات أن يظنّ البعض أن لا شيء تغيّر في البلد منذ أشهر، واحتمالات أن يظنّ البعض الآخر أن كلّ شيء تغيّر وأنّ الأوان الإسرائيلي يُتيح له البناء على ما يظنّه تغيَّر.
أمرّ في منطقة الطيونة ليلاً. أُبطِئ المشي قليلاً وأُطيل التحديق ناحية الهول، وأنتظر الفان رقم 4. فيأتي بالفعل، فارغاً، ويقول لي سائقه النازح من حيّ الصفير حيث سحق الموت العمودي طوابق كانت له فيها دار، إنه سيعود للعيش عند قريب في «البرج» لأن ثمن غرفة الفندق البيروتي لم يعد متوفّراً. أسأله أوتوماتيكياً عن أولاده ومخاطر العودة، وأسهو عن جوابه، أو أفضّل عدم تخيّل السيناريو الذي قد يعلّقه على مشيئة الله…
في واحدٍ من نصوصه الشعرية البديعة، كتب عباس بيضون بعد حرب سابقة «قصيدة ممكنة للضاحية». أجد نفسي كل مساء، ما أن تبدأ غارات البرابرة، أكرّر أبياتًا/جملاً منها، متفرّقة، وأستبدل على الأرجح كلمات بسواها:
لنا أسماء على الأحجار وأحجار وقعت كأسماء.
لنا فائض الحياة وفائض الباطون. حيث الجدران لا أمّ لها…
لنا شيء تركناه وسط الجريدة، في منتصف الغرفة، في أول الزجاجة،
لنا منازل تُصنع بكرسي وموائد تنشأ بطبق واحد.
لا أحد يطلب كفّارة في هذا المكان الذي هو حياتنا والأبواب لا تطرد أحداً.
سلام للضاحية وأهلها ولفائض الباطون والركام والحياة فيها.