تسوية الجنوب
تكمل إسرائيل في عدوانها لجعل الجنوب غير آهل للحياة، فتفجِّر أجزاء كبيرة من قراه (بليدا ومحيبيب والعديسة وعيترون وحولا والضهيرة وميس الجبل وعيتا الشعب وكفركلا ومروحين…).
المشاهد المفجعة التي ينفِّذها الجيش الإسرائيلي وتوزَّع تسجيلاتها على الشاشات لا تنتج أيَّ مناشدة دولية من أي نوع. بل أكثر، الأمر، على ما يُتناقَل من أخبار، هو خطة لتسوية مجموعة من القرى الجنوبية بالأرض من أجل التحضير لمنطقة عازلة ومنع عودة الجنوبيين إلى ما تبقى من قراهم.
لا شيء يمكن أن يصف بحقّ هول مشاهدة تفجير بيتك ومعه ذكرياتك فيه، ودخولها دائرة الاستهلاك قصير الصلاحية. لا شيء يمكن أن يشرح مأساة انقطاع تسوية الفقد مع الموتى الذين فجِّرَت قبورهم، أو يخرِج الناس من فجيعة مسح الذكريات على هذا النحو العنيف المعروض على الملأ.
أين تذهب الأرواح عندما تخرَج من محابسها وتهيم فوق هذا الخراب العنيف؟ هل تنتظر في أمكنتها العائدين أم تلحق بالراحلين؟
أمكنة الحياة
تبدو هذه الأسئلة ضروبًا من التساؤلات الميتافيزيقية التي لا تقدِّم ولا تؤخِّر ولا توقِف الكارثة، ولكنها أسئلة تقع أيضًا في أصل معاني الحياة التي يجب أن تستمر قبالة مشروع الإبادة الجماعية الذي تنفذه إسرائيل.
نجيء إلى هذه الحياة ونرغب أن نترك وراءنا أثرًا، قد يكون إسهامًا معرفيًا، قد يكون ولدًا، قد يكون بيتًا، قد يكون مجرّد قبر. أما في طيب ذكرنا، فنحن نبقى في حكايا الباقين بعدنا. نتناثر في أذهانهم ونصير أجزاء متفرقة، ونتغير كلما رُوِيَ عنا لآخرين لم يعرفونا. نصير أكثر من الذي كنَّاه.
في الموت العادي، يستلزم ذلك التذكر مكانًا نكون فيه أو نزوره مع غيرنا أو نقيم فيه مجالس العزاء. ومع مرور الزمن، تتغير الأمكنة جزئيًا. يرث أولادٌ قصصَ أهاليهم عن أجيال سابقة بالسرد والاستماع، ويسلمونها لمن بعدهم. يعيدون ويضيفون ويبدلون. يتسلحون بالمكان وببقاياه على الأرض أو في الصوَر أو في كلام الباقين من جيل الآباء والأجداد.
أما الناس الذين يصيبهم الخرف، فيقصِّرون أزمانًا ويصلونها على غير ترتيب الأحداث التي حدثت به. هذه طريقة أذهانهم في معانداتهم الأخيرة لحفظ الحياة واسترجاع الناس والأمكنة.
العقاب المكاني
لكل هذا تفجِّر إسرائيل القرى.
تودّ إسرائيل من تفجير القرى ومسحها لحيوات كاملة على النحو الوحشي غير المسبوق في عرضه، أن توسّع الفقد عند الناس لدرجة لا يمكن لهم التعاطي معه. هذه السمة الجماعية للعقاب هي في أصل الهجوم الإسرائيلي المتصاعد منذ أسابيع، والذي بدأ باستهداف أجساد الناس بين الناس، وأكمل بالاغتيال المرفق بقتل جماعي تبخرت معه الأجساد، قبل أن يبدأ بثّ خرائط الموت لصناعة العرض الجماعي نزوحًا ومشاهدة، وصولًا إلى عقاب النازحين في أماكن نزوحهم بين الجماعات الأخرى.
إن المغالاة في توحّش القتل الجماعي وفي عرضه، غرضه تقديم فجيعة ممتدة ومنذرة تتجاوز الجنوبيين والبقاعيين إلى غيرهم من اللبنانيين. إنه تخويف مستطير من محاولة رفع الرأس فقط.
تعميم الرعب
في السنوات الثلاثين الماضية وحتى قبل أكثر من عام بقليل، كانت صورة لحظة القتل عند التقاطها، عند التقاطها تحديدًا، تُنتج اعتراضًا استثنائيًا عند عرضها. كانت فضحًا لما كان يعرفه الجميع، يسبب في بعض الأحيان حرجًا في الإعلام وفي السياسة الدولية، فيؤطَّر تحت «الجرم الاستثنائي» ومعه تأتي المحاسبة المتأخرة أو على الأقل تنتج الصورة رمزيتها في رواية الأحداث.
وقبل سنوات قليلة، انحدر العنف في المنطقة باتجاه عنف عارٍ لا يهدف إلا لتعميم الرعب وتطبيعه. رأينا مشاهد لحرق أحياء في أقفاص ورمي من شاهق وتفجيرات في التجمعات لمجموعات إسلامية وتحرشات جماعية لمجموعات منسحقة اجتماعيًا وقيميًا، وفاقم من هذا العنف ورعاه حكم أنظمة الاستبداد.
ما تحاول هذه المغالاة الإسرائيلية قوله عبر التوحش المعروض إننا دخلنا زمنًا دوليًا غير زمننا السابق، حيث بات عرض العنف المستمر جزءاً أساسياً من فعله. لبنان وغزة مثالان توضيحيان للا استثنائية الصورة المعممة، التي كلما اتَّسعت تطبَّعت.
اليوم تترافق الصورة في تكرارها مع خطابات تبرير الجريمة بالاعتراف بأحقية القوة أن تقرر وحدها مصائر الآخرين. إنها طبيعة الزمن الذي نعيشه. العقلنة المتّكئة على نظام القوة هي سمة من سمات النظرة الحالية لإسرائيل بعد تجاوز خطاب «الديموقراطية الوحيدة» في المنطقة. التكنولوجيا في موقع متقدم في نظام القوة، تجمل العنف العاري، ومعها يصير العلم ذكاءً اصطناعيًا في وجه «غيبية دينية». أما الدقة، فتصير هي تحقيق الهدف رغم الأضرار الكارثية التي تودي بحياة عشرات. الدقة بعنفها الجماعي هذا، هي قيمة أخرى من قيم النجاح والوصول.
المعاني بعد الدمار
عندما تفجّر إسرائيل قرية، إنما هي ترغب بإرفاع القوة إلى مستويات عليا تجبُّ معها مفهومَيّ الشهادة والبطولة، وتقدّمهما في إطار عدميّ خارج الزمن. فبخلاف التعامل معها على أنها نوع من التسليم الديني والنضالي، فإن الشهادة هي لا مكلفة وغير عقلانية بالنظر لحياة طالبها، ولكنها تبدّي حياة الآخرين. فعندما يستشهد أحدهم، إنما هو يفعل ذلك ليبقى الآخرون، وليبعد الموت عن غيره. وعندما تتكرر الشهادة مع آخرين، فإنه موت الضرورة، لحفظ حياة الآخرين بكل مقوماتها ولمنع عنف تدهور الحياة أو انقطاعها.
إنَّ لحظة النحر الجماعي للبشر والأمكنة المرتكزة على القوة العدمية الفائقة تتطلب أن نعيد التفكير في معاني التقدّم والتراجع والبطولة والشهادة، وكيف علينا أن نستردّها من العدمية التي يموضعها فيها فارق القوة. ولهذا نكتب. ولهذا نوضِّب التفاصيل المعروفة ولكن غير الموضَّبة. نفعل ذلك لنخرج من لحظة الخرس التي تفرضها الكارثة علينا. نفعل ذلك لنحاول أن نفهم اللحظة، وكي لا نصير موتى في حياتنا، وكي نجرب أن ننطق بألسنة غيرنا الخرساء. لكنه استبدال لساني ينبغي أن يكون حافظًا لحياة الآخرين لا متسلطًا عليها، تمامًا كالمعنى الأصلي للشهادة.
هذا ما يفنده الكاتب البرازيلي الراحل ڤيكتور هيرنغر في نصه «الكتابة، باستخدام أساليب مختلفة». وقد تكون استعادة مقطع «الكتابة باعتبارها أسلوبًا آبوكاليپتيًّا» من النص ملائمةً لفهم هذه اللحظة المتوحشة العالمية التي تُنحَر فيها القرى والعائلات أمام الكاميرات في إطار محاولة تكريس الأسرلة في المنطقة:
النهاية قريبة. لقد كانت دومًا.
وكنا دائمًا نغني ضد الموت.
النهاية، فقط، توحدنا.
بيان صغير – احفظوا كل شيء، وتذكروا كل ما فعلناه. الفن في عصر التأثير البشري (الأنثروبوسين) هو المجال العام. أحبوا بصمات الأصابع الدهنية التي نتركها على الأشياء، وكل الأصوات، وكل الإيقاعات، وكل الصفار في ورق الصحف، وكل ألبومات العائلة الصغيرة. كل ما كان لنا مهم. الحب هو تجديد المعنى. وتجديد المعنى مهمة مستحيلة، وما من وقت للقيام بها، وهنا تكمن مأساتنا.
فلنكتب ضد ويلات النفوس والقلوب والرؤوس!
ما يبقى لنا إذًا هو تجديد المعنى، وعلى عكس مقاربة هيرنغر، فإنَّ وحشية اللحظة لا تعني أنَّ المهمة مستحيلة. بمعنى آخر، هذه دعوة لاستعادة المعنى اللبناني، لا لإعادة إنتاج أزمات النظام اللبناني في العشرين سنة الفائتة.