عندما دخلت للمرّة الأولى إلى استديو «أملغام» في شارع الحمراء في بيروت، قبل عدة سنوات، للمشاركة في إحدى ورشات الرقص المعاصر مع أحد الكوريغرافيين الوافدين من سويسرا، لم يكن ذلك مجرّد دخول إلى فضاء مادي، بل انغماساً في عالم من الدهشة، بدا فيه الجسد جزءاً من لحظة جمالية منفتحة على احتمالات جديدة.
الأرضية الخشبية المطليّة بدهان أزرق سميك، كانت تمنحنا انسيابيّةً في التحرّك والقفز والتنقّل. الجوّ الحارّ والرطب- والذي تتداخل معه الأصوات القادمة من الشارع المزدحم- كان يحفّز التعرُّق الذي هو إحدى أهمّ لحظات الإبداع والاكتشاف. داخل الاستديو، حيث المرآة، مكبّر الصوت، والستائر السوداء، يزداد إحساس الجسد وتنقّلاته بين الواقع والرمز، بين المادّي والمتخيَّل، في محاولةٍ لاكتشاف احتمالات الجسد المتبقّية في مدينةٍ مُنهَكة. بحسب موريس ميرلو بونتي، في «الظاهراتية الإدراكية»، الجسد ليس مجرّد «أداة» أو «كائن مادي»، بل هو «وسيلة لفهم العالم»، وما استديو «أملغام»- رغم ضبابية الكلمة وترجمتها، للبعض- إلاّ إشارة لفعل الاندماج والتداخل والتفاعل بين الجسد والمكان. يُعَدّ «أملغام» واحداً من الفضاءات الثقافية المستقلة النادرة التي لا تزال تعمل في بيروت، في ظلّ التحوّلات الاجتماعية والسياسية السريعة، فهو ليس مجرّد فضاء للرقص المعاصر، بل هو مساحة لإعادة تشكيل الجسد في مدينة معقّدة التحوّلات.
الفضاء بين «المفهوم والمحسوس»، بين الجسد والفكرة
نكتب اليوم عن استديو «أملغام»، كفضاء للتجريب والتفتيش في احتماليات الجسد المعاصر، إن كان على صعيد النبش في الأشكال والمضامين، أو على صعيد الاستدامة المادية، ويبرز كتاب «تياتر بيروت» للفنانة المسرحية والباحثة حنان الحاج علي، التي وثقت تجربة «مسرح بيروت» على مدار أربعة عقود. قدمت في الكتاب رؤية معمقة لتفاعل المسرح مع المدينة. في مقدمة الكتاب، تستند الحاج علي، إلى تعريف ماري كلير ورباس فييولميه، للفضاء، الذي هو تلاقح مستمر بين المجرد والملموس، بين المفهوم والمحسوس، إنه البناء المادي والوعاء المعنوي، إنه المكان الذي نبنيه من خلال تفكيك معانيه، ومن خلال تراكب النشاط والممارسة والعلاقات العابرة، للمجالات والوسائط، مع مراحل المراوحة والأزمة والوقوف. وبين فضاءَيْن، «أملغام» و«مسرح بيروت»، سنوات من التحولات الجذرية والتجارب المتنوعة، ولكن المشهد الثقافي في بيروت، يتراءى لنا أنه لا يزال يواجه نفس الإشكاليات. وتظل التساؤلات قائمة حول التمويل الرسمي المؤسساتي للثقافة وللفضاءات الفنية، ويبرز أيضاً دور الفضاء في ظل التحولات العميقة التي تمر بها المدينة.
الاستدامة الماليّة: الاقتصاد الموازي للمؤسّسات الثقافيّة
يشكّل استوديو «أملغام» نقطة ارتكاز توفّر الاستمرارية، والرعاية، ومساحة للتجريب الفردي والجماعي. نشاطه يركز على إقامة وتنظيم ورش العمل، وصفوف الرقص المعاصر، والتعبير الجسدي، بالإضافة إلى بروفات العروض المسرحية، تحديداً تلك التي تعنى بالجسد. المساحة، بطبيعتها، لا تستوعب جمهوراً ولا تقيم العروض داخله، لكنها تظل مساحة ذات خصوصية كبيرة بالنسبة لمجتمع الرقص في لبنان. حيث يعمد على سبيل المثال، أي فنان/ة لاستئجار المساحة بأربعة دولارات للساعة، ممّا يشكل أداة مرنة للفنانين للتنظيم والإنتاج والإبداع والخلق.
هذه المرونة تُعَدّ من أكبر نقاط القوّة التي يُقدّمها الاستديو، لكنها في ذات الوقت تفتح نقاشاً أعمق حول كيفية استدامة مثل هذه الفضاءات في ظل غياب الدعم المؤسسي. وهل يمكن للفن أن يظل حياً في مدينة يفتقر فيها الفنانون إلى الدعم الكافي؟
تخبرنا كلٌّ من المؤسِسة والمديرة الفنية يارا بستاني، والمديرة الفنية الشريكة رشا بارود، بأن «أملغام» يعمل دون دعم مؤسسي منتظم، ويواصل تنفيذ مهمّته من خلال تأمين تمويلات متقطّعة وشبكات تضامن مجتمعية. منذ عام 2020، يقدّم الاستوديو إقامات فنية مجانية سنوياً لأربعة فنانين يتم اختيارهم عبر دعوة مفتوحة، مع إعطاء الأولوية للفنانين الناشئين، والطلاب، والأفراد من المجتمعات المهمّشة. ولضمان استمراريته، يعتمد الاستوديو أيضاً على دخل الصفوف، وتأجير المساحة، وجمع التبرعات من خلال الفعاليات، وشبكات التضامن، من أجل الاستمرار في تقديم دعم متاح للفنانين/ات، مع الحفاظ على استمرارية عملياته الأساسية.
ورغم التحدّيات المادّية، ظلّ الاستديو صامداً كمساحة للتلاقي والاكتشاف، مُجسِّداً أهمية دور الفضاءات الثقافية في ظلّ غياب الدعم المؤسسي اللازم. استطاع القيّمون على «أملغام»، خلال السنوات السابقة، أن يصبح نقطة التقاء للفنانين، خالقاً فضاءً ثقافياً يعكس تفاعل الجسد مع تحولات المدينة المتسارعة، وصار مساحة للتلاقح الثقافي، إذ يشبك الفنانين الناشئين مع المحترفين، والمحليين مع العرب والأجانب، فكان بمثابة مساحة لاستكشاف مآلات الجسد المعاصر وحدوده.
الاستوديو كملاذ، والشارع كجبهة: عن التوتّر العاطفي والسياسي
على مدار عشر سنوات، استضاف المهرجان عدداً كبيراً من الفنانين من مختلف السياقات العالمية والإقليمية والمحلية. يدرك القائمون على الاستوديو أهمية توثيق هذه الأنشطة، ليس فقط لحفظ الذاكرة، بل لما تحمله من دور في الانفتاح على التجارب الفنية المتنوعة في المدينة. ففي هذا الفضاء، حيث يتقاطع الحيّز الضيّق للاستوديو مع الفضاء العام من حوله، تنشأ تفاعلات تعبّر عن حركة التحوّل الفني والثقافي في بيروت، وتساهم في رسم ملامح هويتها المتجددة.
داخل الاستديو، فضاءٌ ضيّق يتحرّك فيه الجسد، يتنفّس، ويجرّب. صفوف في الرقص والصوت والحركة تسائل العلاقة مع الذات والآخر. وفي الخارج، مدينة ينهشها التآكل البطيء: أزمات متراكمة، نزاعات لا تهدأ، وواقع متفجّر لا يمنح أحداً هدنة. بين هذين العالمين، يبرز الاستوديو كملاذ، والشارع كجبهة، وينشأ توتّر يومي، وهو بالضبط ما يجعل «أملغام» ضرورياً.
الاستوديو لا يقدّم بديلاً عن المدينة، بل يخلق احتمالًا داخلها. هنا، لا يُسحب الفنّ إلى الهامش، بل يُزَجّ به في قلب المجهول، ممّا يطرح السؤال: هل على الفنان أن يتراجع في وجه الانهيار؟ أم أن يواصل، بعنادٍ، فِعل الخلق؟
تقول يارا البستاني ورشا بارود: في هذا التوتر، يتّضح دور «أملغام»، هو مساحة لإعادة التخيّل والتجدّد. يجمع الاستوديو مجتمعًا من الفنانين/ات للحركة، والتفكير، والخلق المشترك، مؤكداً على أهمية الممارسات الجسدية في أزمنة الانقطاع. لا يسعى إلى الهروب من السياق، بل يعمل من داخله، ويوفّر مكانًا للمعالجة، والشفاء، واقتراح أشكال جديدة للحضور.
عن «البديل» كنموذج للتوتّر بين الثقافة الرسميّة والثقافة البديلة
منذ الأوّل من حزيران (يونيو)، أطلق استديو «أملغام» مهرجاناً احتفالياً بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسه عام 2015. أسبوعان من الفعاليات المكثفة، تم خلالها عرض فيلم الرقص (10 x 10) الذي عُرض في سينما «ميتروبوليس»، ولقاء عن بعد مع المؤدية والباحثة علياء حمدان، وورشة رقص معاصر مع بسام أبو دياب، والتجارب المفتوحة الأخرى في ليلة الاختتام (السبت، 15 حزيران، ابتداءً من الساعة السادسة عصراً)، كعرض (Plastipheres #3) ليارا بستاني وعدد من الراقصين، وعرض «لا بدّ للشمس أن تغيب» لرشا بارود وعدد من الراقصين الآخرين، بالإضافة إلى عزف مع الموسيقى الهندية (Daniel Balani & Chetan Shukla)، ووصلة رقص شرقي مع الراقصة سارة صافي حرب، ودي جي (Polyet & Bakis) في معمل طنوس في حي الكرنتينا. ومع ذلك، غاب المهرجان عن التغطيات الإعلامية السائدة، في مشهدٍ لم يعد مفاجئاً بقدر ما بات مؤشراً على خللٍ بنيويّ في علاقة الإعلام بالثقافة، خصوصاً حين تتخذ هذه الثقافة شكلاً بديلاً لا ينتمي إلى المؤسسات التقليدية. فما الذي يُعتبر «ثقافة»؟ ومن يملك سلطة التعريف والترويج؟
في قلب هذا السؤال، يتحرك «أملغام» كأحد الأمثلة الحية على الفضاءات الثقافية البديلة التي لا تنتظر اعترافاً من مؤسسات، بل تبني لغتها من الهامش، وتقول ما لا يُقال في قلب مشهد مهيمن. هو ليس مجرد مساحة لإنتاج العروض، بل أفقٌ آخر لتعريف الذات الفنية، حيث الاختلاف والتعدّد والانتماء المتقاطع، لا الاستعراض ولا الاستهلاك، وهو ما يُحتفى به.
يفتح ذلك النقاش عن التوتّر بين الثقافة الرسمية والثقافة البديلة. ومع ذلك، يظلّ التحدّي كبيراً. فبدون دعم إعلامي يوازي هذا الجهد، تبقى هذه المبادرات شبه معزولة، لا تصل إلى الجمهور الأوسع. وهنا يتكرّس الانقسام: ثقافة رسمية مدعومة تُمنح أدوات البث والترويج، وثقافة بديلة تُكابد لتُرى، لا لأنها أقلّ قيمة، بل لأنها ترفض الامتثال للسرديات المعلّبة.
لكنّ البديل لا يقوم فقط كردّ فعل. بل يقاوم. يؤسّس لذاته ولغيره، ويبني علاقاته على القرب لا على الترويج، وعلى التحوّل لا على الثبات. تقول يارا البستاني ورشا بارود: «مثل العديد من المساحات الثقافية القاعدية، يعمل «أملغام» خارج دوائر الإعلام الرسمي والدعم الحكومي. ومع ذلك، تكمن قوّته في قربه من الناس». وبالفعل، لم يكن مهرجان «شربكات» الذي نظمه استديو «أملغام» في حي الكرنتينا في ربيع 2024، وقدّم عروض رقص معاصر، وتجهيزات فنية، ومسرحيات، سوى دلالة على وجود شبكة حقيقية من المتعاونين والمشاركين، من فنانين، طلاب، وممارسين من مختلف التخصصات، يتقاطعون عبر الجسد والحدث والفضاء المشترك، لإتاحة الفن للجمهور.
حول المستقبل واحتمالاته، تقول البستاني وبارود إن «أملغام» يسعى في المرحلة المقبلة إلى توسيع نطاق تواصله من خلال بناء شراكات مع المدارس والجامعات المحلية، وتقديم عروض فنية في الفضاءات العامة، وتنظيم لقاءات مجتمعية تمزج بين الفن والحياة اليومية. الهدف ليس فقط توسيع الوصول، بل تعميق الروابط. لا يرى «أملغام» الجمهور كمجموعة منفصلة عن حياة الاستوديو، بل كجزء من النسيج المشترك: شهوداً، ومتعاونين، ومساهمين في نظام بيئي وجماعي مشترك.