أن تحمل خطاب خصمك
سيطرت معادلة غريبة على شكل المواجهات السياسية في الجنوب عمومًا، وعلى مستوى انتخابات الجنوب النيابية خلال السنوات والدورات الماضية على وجه الخصوص.
معادلة كانت تمنح، وبشكل تلقائي، شروط التفوّق والسيطرة والهيمنة لحزب الله وحركة أمل بشكل مباشر. وذلك بعدما كانت تعوم اللوائح المعارضة للثنائي على مسلّمات خطابهما باعتبارها هي المسلّمات. وعندما كانت تكبح وتمنح ما يكبحه تحالف الثنائي وما يمنحه، دون الابتعاد والتمايز، ولو بالحد الأدنى، عن كل ما كانت أحزاب هذا الثنائي تجاهر به وتفكر فيه.
لطالما انطلقت معادلة هذه المواجهات السياسية من فكرة مفادها أنه لجذب جمهور الجنوب عمومًا، والجمهور والناخب الشيعي على وجه الخصوص، لا بد من حمل خطاب الثنائي نفسه، لا بل التطرف فيه، والتطرف به، والتعديل عليه لناحية أو لناحيتين لا تغيّران شيئاً في منطق الخطاب الذي يحكمه. وهو مقتل أدى إلى بقاء المشاركين في كنف الثنائي الأصيل عوضًا عن المعارض المشوّه البديل من ناحية، وأدى أيضًا إلى انكفاء الآخرين عن المشاركة في تكريس بديل تغييري غير موجود ولا واضح المعالم من ناحية ثانية.
فأن تحمل خطاب خصمك، هو أن تنهزم أمامه مهما كانت طبيعة المعركة، ومهما كانت النتيجة.
سقف المعركة السياسيّة
لم تقف هذه التوجهات السابقة على مستوى الجنوب بالتحديد، إلا أن للجنوب الحيّز الأساس، والثقل الأكبر، فيها. ففي الجنوب، المواجهة هي مواجهة مفتوحة مع رأس حربة النظام الذي يمثله الحزب، ولهذا السبب، لن يتوانى الحزب عن استخدام كل ما هو ضروري لإدامة سيطرته. وذلك ليس انطلاقًا من معارك خيالية يخوضها بعناوين حربية مباشرة كعنوان «حرب تموز»، ولا لناحية التشكيك بوطنية كل من يواجهه سياسيًا أو انتخابيًا وصولاً إلى اتهامه بالعمالة ووضعه في فلك العدو والسفارات.
وقد بات تهديد الناس وتخوينهم مباشراً، كما حدث معي شخصيًا عبر تهديدات تلقيتها من الذباب الالكتروني الدائر في فلكه. تغريدات استحضرت كاتم الصوت واغتيال لقمان سليم، وصولا الى نشر معلومات خاصة عن مكان سكني، وتهديدي بالاشارة الى فرع الجامعة- مكان عملي. كله بهدف تخويفي، وتخويف الناشطين من التشرح وتقويض حركتهم، وتخويف الناس من المشاركة، وصولا الى ترهيب كل من يفكر بالانفكاك عنه.
هذا، إن دل على شيء، فعلى توتر الحزب من كسر الفكرة التي يحاول جاهدًا المحافظة عليها، أعني فكرة المجتمع المتجانس والدائر في فلكه، مرورًا باحتمال إمكانية الخرق.
سقف المعركة السياسية
لهذا كله تتبدى أهمية رفع سقف المواجهة إلى المستوى السياسي الأعلى، وذلك لعدة ضرورات:
- الضرورة الأولى هي لخوض معركة سياسية بامتياز، والكف عن خوض معارك مطلبية إصلاحية. معارك تعوم، وإن في شكلها المطلبي، على خطاب النظام دون أن تفكّر في تخطيه.
- الضرورة الثانية هي استكمال للضرورة الاولى، لكن لناحية فرز قوى المعارضة الجنوبية على مستوى المشروع، وعلى مستوى التطلعات والخطاب السياسي. وفوق هذه وتلك، على مستوى القوانين والتشريعات. أي إنها إعادة السياسة والنيابة من الشكل الخدماتي الاستنسابي الاستزلامي الذي كان يهيمن، إلى الشكل التشريعي، إلى اجتراح قوانين تحمي المواطنين، وتحمي وتعزّز صمودهم في أرضهم.
- الضرورة الثالثة هي أن سقف المعركة السياسية في الجنوب سيكون سقف المعركة السياسية في كل لبنان. وأن السقف العالي في الجنوب، سيرفع السقف في كافة المناطق الأخرى.
لا تنبع الضرورات المساقة أعلاه من خيال، ولا من يوطوبيا. بل هي الشرط الأوّل والأساس لخوض أي معركة سياسية عامة، ونيابية تمثيلية، في هذه الحالة الحرجة من عمر الدولة. فالمعركة ليست على مستوى مواجهات تشريعية وسياسية بسيطة، بل على مستوى شكل الدولة البديلة، على مستوى قوانينها، على مستوى دستورها.
معركة التمثيل
من هنا، فإن المواجهة لا تحتمل أن تكون مائعة، أن تكون تسطيحية محصورة بخطاب الإصلاح، ومواجهة الفساد، وبعض التنمية ليس إلا. بل لا بد من تحويل الدولة إلى مصنع كبير، مصنع قيم المحاسبة والديموقراطية والعدالة والمساواة، مصنع المواطنة، ومصنع وحقل لإنتاج شروط العيش. إنها معركة تحويل المناطق النائية إلى أماكن قابلة للعيش، والعمل، والعلم، والسكن، والطبابة، مناطق يتمتع ناسها بأبسط شروط العيش الكريم، بعد أن نالوا شرف مقاومة العدو ودحره.
هي معركة الاستحقاقات، معركة انتخاب رئيس الجمهورية، ومعركة الانتخابات البلدية القادمة… وهي فوق هذه وتلك معركة التمثيل ذاته، من خلال خوض معركة القانون التمثيلي الأمثل للناس، بحيث لا يكون تمثيل منطقة على حساب أخرى، ولا أن تكون إعادة إنتاج لآليات تمثيل فرضها غازي كنعان في الفترات السابقة. تلك القوانين التي كانت تقتصّ من هذا بذاك، وتقتصّ من ذاك بهذا، وتقتصّ من التغييريين والعلمانيين بهذا وذاك وعلى جميع المستويات.
لا شك أن المعركة السياسية التي نتكلّم عنها هي على هذا القدر من الخطورة ﻷنها على هذا القدر من المسؤولية. هي معركة مرتبطة بمستقبل الناس، وبمحاولة وضع الحد لنزيفهم ونزيفنا المستمر. لذلك، فإن التركيز عليها يجب أن يكون سيد الموقف، والموقف لا يكون على مستوى توحيد قوى الاعتراض حصرًا وبالضرورة. فكلنا يعلم أن هذا الكلام يحمل من الاستحالة ما يكفي لكي يجعله لاواقعيًا. بل إن التركيز هو على ضرورة فتح باب مواجهة سياسية مفتوحة، مواجهة لن تصل بالضرورة إلى النتائج التي نتوخاها في هذه الانتخابات والاستحقاقات، في حال تمت المشاركة فيها، وفي حال أُجريت في موعدها. بل إن باب المعركة هو الذي سيُفتح على مواجهات مستقبلية لانهائية، مواجهات تعيد الفرز السياسي، لا بل تعيد الناس بوصفهم اللاعب الأساس في أي خطاب وممارسة سياسية مستقبلية بديلة.