أصبح مفهوم «الأزمة» كقصّة الراعي والذئب. فاستعماله المكثّف في السنوات أو حتى العقود الأخيرة لوصف أيّ تطور سياسيّ أو اقتصاديّ أفقدَه أيّ فعاليّة نظريّة، حتّى وجدنا أنفسنا في زمن أزمة الوباء فاقدين لأيّ أداة نظرية للتفكير بها.
للتذكير،
وُصِفت أحداث متفرّقة كصعود الشعبويّات أو الانهيارات الاقتصادية أو الثورات العربية أو بروز «داعش» أو غيرها من التطوّرات، بـالأزمات المفترض بها أن تشكّل عتبة، تفصل بين عالمَيْن. لكن بعد الفورة الإعلاميّة والنظريّة التي رافقت كلّاً مِن تلك الأزمات، عاد العالم إلى «طبيعته»، ليتبيّن أنّه ما من أزمة أو عتبة.
عاد الكلام عن «الأزمة» مع انتشار الوباء الجديد والإجراءات الاستثنائية التي اتُّخِذت في سائر دول العالم. فنحن، هذه المرّة، على عتبة عالم جديد لن يشبه العالم الذي سبقه. نحن، هذه المرّة، أمام عتبة فعليّة، ستتحوّل بعدها الحياة كما عرفناها حتى اليوم. نحن، هذه المرّة، نودّع الماضي للمرّة الأخيرة. إنّها نهاية العالم، إنّها ولادة عالمٍ جديد، يكتب طارق أبي سمرا، محدِّدًا بنية السجالات الدائرة حول الوباء، والتي تبدو، رغم اختلاف الميول الفكرية للمشاركين فيها، أمثلة مختلفة عن فكرة الخلاص.
نحن إذًا على مفترق طرق: إمّا أن نتعلّم الدرس من هذا الوباء، أيًّا يكُن هذا الدرس، وإمّا أن نتّجه نحو الانهيار، أيًّا يكن شكل هذا الانهيار. لكن لا عودة إلى ما قبل الوباء، حتّى بعد اكتشاف طُعْمٍ له.
لقد قضت الأزمة على «القاعدة» وأدخلتنا في عالم المجهول، أو عالم الاستثناء وإجراءاته التعسّفية. حين حاول المفكّر الإيطالي جورجيو أغامبين، صاحب نظرية «حالة الاستثناء»، أن يشكّك ببعض الإجراءات التي فُرضَت في بلاده، طارحًا أسئلته المعتادة عن خطر الاستثناء وتحوُّله إلى قاعدة، تمّ نقده بشدّة واتّهامه بعدم المبالاة لحياة الأبرياء المعرَّضين للموت. كشف عنف ردود الفعل التي رافقت أسئلته المعتادة، الطابع التجاوزيّ لنقده. فهو لم يهاجَم لمساءلته بعض الإجراءات، بل لتشكيكه بهذه البنية الخلاصيّة التي أصبحت هي الإجماع. سقطت النزعات التشكيكيّة والتفكيكيّة التي سيطرتْ على الفكر السياسي الغربي عندما دخل الموت إلى الغرب، ولم يعد احتمالاً يمكن نفيُه إلى أطراف العالم.
دخلنا الاستثناء إذًا، ولم يجد النقد إلا الخلاص للتفكير به.
هذه المرّة، إذًا، ليست ككلّ المرّات التي سبقتها.
هذه المرّة، الأزمة فعليّة وليست مجازًا.
هذه المرّة، دخلنا عالمًا جديدًا.
هذه المرّة، لا عودة إلى ما كان قائمًا من قبل.
هذه المرّة، دخلنا عالمًا جديدًا، لا يمكن التنبُّؤ بشكله.
بيدَ أنّ هذا الجديد قد لا يكون جديدًا لكلّ العالم.
فمع كلّ فتوحاته «العالم ثالثيّة» و«الما بعد استشراقية»، بقي الفكر الغربي متمسّكًا بمفهومه للقاعدة، وكأنّها هي الغرب وتجربته. لكنّ مَن اعتاد العيش خارج هذه القاعدة وفي زواريب «الاستثناء»، قد لا يكون هذا العالم الجديد مختلفًا جدًا بالنسبة له عن العالم الذي اعتاد عليه. وقد يكون في تجارب أولئك «الهامشيّين» القابعين بالاستثناء، دلالات لما ينتظرنا بالمستقبل أكثر من التنظيرات الخلاصيّة التي تواكب أزمة الحاضر.
قد يكون «الخلاص»، بهذا المعنى، آخر ملجأ لمَن لم يقبل بعد أنّ تجربة الغرب باتت هامشيّة لفهم معالم عالمنا الجديد القديم.