تعليق الزراعة
دارين أبو سعد

عن قانونٍ ينزع البذرو من عالم «المُسلَّم به»

22 كانون الأول 2025

من سطح البيت إلى السوق

غالباً ما نتعامل مع البذور كأمرٍ مسلَّمٍ به. حبّة صغيرة تُدفن في الأرض. تغيب لأسابيع. ثم تعود إلينا طعاماً. 
لا نفكّر كثيراً بما يحدث في تلك الرحلة، ولا بمن يقف خلفها، ولا بمن يملك الحقّ في تحديد مصيرها. غير أنّ هذا التفصيل البسيط يفتح على صراع أوسع بكثير مما نتخيّل.
في عالم يُستخدم فيه الغذاء كسلاح، تتحوّل الأسئلة عمّن يمتلك البذور ومَن يحقّ له بيعها ومَن يتحكّم بما يمكن للمجتمعات أن تزرعه وتأكله وتحفظه، من مسائل زراعية إلى قضايا سياسية واقتصادية مباشرة. من هنا، لا يمكن التعامل مع أي تعديل في قوانين البذور كمجرّد «تنظيم للقطاع»، بل كقرار يتدخّل في تفاصيل العيش اليومي نفسه: هل ستبقى البندورة الجبلية والمقتى كما نعرفها، بطعمها ونكهتها، جزءاً ممّا نزرع ونأكل؟ أم سيُعاد رسم المشهد الزراعي وفق منطق يقرّر ما يُزرَع وما يختفي؟
هذه الأسئلة لم تأتِ من فراغ، بل من ذاكرة بيت، من أبٍ كان يخزّن البذور في علب معدنية، ويتعامل معها كشيءٍ لا يعوَّض.

السطح الذي صار مشتلاً

حين أقفلت كورونا الطرقات والحدود، لم يكن لبنان في وضع طبيعي أصلاً، بل في عمق انهيار اقتصادي شامل، ما جعل هشاشته أكثر وضوحاً. توقّفت المرافئ، فرغت الأسواق، وتبيّن أنّ الوصول إلى الغذاء ليس مضموناً، بل محكوماً بتوازنات سريعة الانهيار. اعتدنا أن نقول «ما حدا بيموت من الجوع»، لكن هذا القول فقد خفّته فجأة، وصار أقرب إلى آلية إنكار تخفي واقعاً قائماً.
في تلك الأيام، صار القلق يدخل البيوت من أبوابها الصغيرة. أبي، مثل كثيرين غيره، حوّل سطح بيتنا إلى مشتل: أحواض بلاستيك، تراب، شتول صغيرة، وبذور محفوظة من مواسم قديمة. بدا الأمر محاولةً للاكتفاء الذاتي، وكأنّ النجاة ممكنة إذا انسحب كلّ بيت إلى مساحته الخاصة.
لاحقاً، تبيّن أن ما حدث لم يكن سوى علامة. علامة على طريقة تُدار بها الأزمات، حيث يُترَك الناس لمواجهة الانقطاع بأنفسهم، فيما تبقى شروط العيش معلّقة على صدمات خارجية، كما ظهر لاحقاً مع تغيّر سعر الخبز في لبنان إثر الحرب الروسية الأوكرانية. عند هذا الحدّ، لا يعود التحكّم محصوراً بتوافر الغذاء أو كلفته، بل يمتدّ إلى ما يبلغ أطباقنا. ومع إعادة تعريف ما يُدار كحقّ وما يُدار كسلعة، تخرج البذرة من معناها الزراعي الضيّق، لتدخل مساراً من التسليع الأوسع. 

قانون البذور: من المشترك إلى السلعة

ضمن هذا السياق، لا يمكن النظر إلى قانون تنظيم تجارة البذور الجديد في لبنان كإجراء إداري تقني. فمن خلال آليات التسجيل والترخيص، لا يُسمَح بتداول البذور إلّا ضمن شروط محدّدة، تُقدَّم تحت عناوين مثل «تنظيم السوق» و«ضمان الجودة». ما يحصل هنا ليس تحسيناً للزراعة بقدر ما هو إدخالها في منطق السوق بوصفه بوابة الاعتراف الوحيدة.
هذا المنطق مألوف في التجربة اللبنانية. فقد اعتدنا أن ندفع مقابل ركن السيارة، أو لعبور الشاطئ، أو للحصول على الكهرباء والمياه، وحتّى لاستخدام مساحة من الفضاء العام. لذلك، ليس مستغرباً أن يفضّل كثيرون دفع مخالفة سير على تسليم سياراتهم لشركات الفاليه. فالوسيط الربحي هو الذي بات يحكم التعامل مع هذه المساحات.
الزراعة لا تُستثنى من هذا المسار. فالبذور المحلّية، المتغيّرة والمتكيّفة مع الأرض والمناخ، والتي تُحفَظ وتُتداول خارج السوق، لا تنسجم مع منطق التسجيل والتوحيد. إخضاعها لهذه الشروط لا يحميها، بل يضعها في موقع هشّ: إمّا التهميش، وإمّا الخروج من التداول، وإمّا تحويل ممارسات حفظها وتبادلها إلى أفعال غير معترف بها.
بهذا المعنى، لا يأتي القانون لتنظيم القطاع، بل لإعادة رسم حدوده. فهو ينقل البذور من حيّز المشترك، بوصفها ممارسة جماعية ومعرفة متراكمة، إلى حيّز السلعة، حيث لا يُعترف إلا بما يمكن ضبطه وتسعيره.

احتكار البذور: من الشركات إلى الشبكات المحلّية

لا يمكن فصل قانون البذور في لبنان عن التحوّلات الجارية على مستوى النظام الغذائي العالمي، ليصبح الاحتكار هو القاعدة الأساس التي تُدار عبرها الزراعة. فبحسب تقرير صادر عن ETC Group بالتعاون مع GRAIN، تسيطر أربع شركات زراعية عملاقة على أكثر من نصف سوق البذور التجاري العالمي. وبالتالي لا يقتصر هذا التركّز على الهيمنة على السوق وإنّما يتجاوزه  إلى فرض نموذج إنتاج محدّد.
ضمن هذا النموذج، لا تُعامل البذور بوصفها أساساً للحياة الزراعية، بل كشيء لا يُسمح بتداوله بحرّية، ويفرض على المزارع أن يشتريه في كل موسم من جديد. هكذا، تُدفع ممارسات الحفظ والتبادل إلى الهامش، وتختفي أصناف محلّية كاملة من الحقول، لا لأنّها غير صالحة، بل لأنّها لا تشبه ما يريده السوق. وقد تكرّر هذا المشهد في أماكن عديدة، من الهند إلى أميركا اللاتينية، حيث خرجت بذور كاملة من التداول لأنّها لم تدخل في القالب المفروض عليها.
لبنان لا يقف خارج هذا المسار، بل يدخل إليه من موقع أكثر هشاشة. غير أنّ الاحتكار هنا لا يتّخذ فقط شكل الشركات العابرة للقارات، بل يتقاطع مع نمط محلّي يمكن تسميته بالاحتكار المليشياوي: احتكار تحميه السياسة، وتديره شبكات زبائنية تتقاسم القطاعات كما تتقاسم النفوذ. في هذا السياق، تصبح حماية الامتيازات ومصادر الربح  أهم بكثير من حماية حقوق المستهلكين، بالتالي، لا يعود قانون البذور مسألة تقنية، بل حلقة في مسار لبناني مألوف تُعاد فيه هندسة القطاعات، من الكهرباء إلى المياه وصولاً إلى الزراعة، وفق منطق احتكاري يقفل البدائل ويخضع ما تبقّى من المشترك للتسعير والتحكّم. عند هذه النقطة، تُدار الزراعة كقطاع خاضع لاحتكار، عالمي في شكله، ومليشياوي في إدارته.


في النهاية، لا تتعلّق المسألة بالبذور وحدها، ولا بقانون واحد. ما يُطرح هنا هو سؤال عن شكل العلاقة التي تُبنى بين الناس وما يعيشون منه، وعن المسافة التي تُفرض بينهم وبين الأرض باسم التنظيم. حين تصبح هذه المسافة قاعدة، لا يعود الخطر في ما يمنع مباشرة، بل في ما يتلاشى من دون ضجيج. وربما هذا ما يجعل البذور مسألة تستحق الانتباه اليوم: لأن ما يضيع مع الوقت، غالباً ما يصعب استعادته لاحقاً.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

عن قانونٍ ينزع البذرو من عالم «المُسلَّم به»

دارين أبو سعد
أوهام الزراعة في لبنان
دراسة

أوهام الزراعة في لبنان

زياد ياغي
شهيدان في غارتَين إسرائيليّتَين متتاليتَين على ياطر
هجّروه من المخيّم لجأ إلى الكنيسة
21-12-2025
تقرير
هجّروه من المخيّم لجأ إلى الكنيسة
قيل هذا الأسبوع 14 - 20 كانون الأوّل 2025
رفع اسم علاء عبد الفتاح عن قوائم منع السفر