ما بحياتي قدرت أحفظ تاريخ السنة ولا اليوم يللي اغتالوا فيه بيّي. سنة 1988 أو1989، دايماً بضيّع. كان عمري 21 أو 22.
سنة 1988 أو 1989
إلّا أنَّ مازن خالد، ابن المُفتي حسن خالد الذي اغتيل في 16 أيار/ مايو 1989، يتذكّر اللحظات التي سَبقَت الاغتيال بتفاصيلِها الرهيبة:
حصلت جريمة الإغتيال خلال "حرب التحرير" التي أعلنها ميشال عون في 14 آذار 1989 ضدّ التواجد العسكري السوري في لبنان وكان القصف العشوائي الذي شنّه لا يميّز بين مبنى سكني وموقع عسكري.
وكان كلَّما هدأ القصف قليلاً، يخرج مازن من المنزل كي لا يختنق. يتذكر أنه كان يوم الثلاثاء، سَكَتَ خلالَه القصف على ما كان «بيروت الغربية»، فذهب إلى مسبح «الكورال بيتش» مع رفيقه. التقى هناك بسيّدتَين.
راحت إحداهما تسأَله وتكرِّر: شو يعني مفتي؟ لإيمتى بضلّ الواحد مفتي؟
أجابها مازن: طول العمر.
يعني حتى يموت؟ قالت.
وسُمِع دويّ انفجار.
عندما رأى الدخان المُتصاعد، قال مازن لرفيقِه إنَّ شيئاً ما في هذا الدخان يعرفه جيداً. كان الناس يركضون وينظرون إليه. كانت الساعة 13:13 على الأرجح، يَذكر أنه سمع موجزَ أخبار «صوت لبنان» الذي كان يذاع على الواحدة والربع: انفجار في الزيدانيّة يستهدف مَوكب المفتي حسن خالد.
النفق قبل الاغتيال
بابا كان يعرف، وكأنّو كان جاهز للموت. قبل أسبوعين أو ثلاثة على الاغتيال، حسّيت وكأنّو تخلّى عن الدني، قال مازن، مسلسلاً الأحداث التي حَصلت في الأشهر والأسابيع التي سبقت الجريمة.
إذ كما تجري العادة الى يومنا هذا، يبدأ التمهيد لجريمة الاغتيال قبل أشهر من التنفيذ، فتُطلَق حملات التحريض والتهجّم والتخوين في الإعلام ضدّ الشخص المستهدف. وهذا ما حصل قبل اغتيال حسن خالد. كان في ضغط كبير عليه. كبر سنين خلال الشهرين الأخيرين، يقول مازن، قبل أن يذكر أنّ أباه قد طلب منه البحث عن جامعة خارج لبنان يتابع دراسته فيها، هو الذي كان يريد لإبنه أنْ يبقى في بلده.
يذكر مازن أنّ أحدهم عرض على المفتي سيارة مصفّحة قبل الاغتيال بأسابيع قليلة، علّها تحميه من الموت. رفض استعمالها، قائلاً إنّ ذلك يعني أنهم سيزيدون من قوَّة الانفجار، ما سيؤدي إلى ارتفاع في عدد الضحايا.
وفي الأيام الأخيرة التي سبقت اغتياله، كان المفتي يحلم الحلم ذاته كل ليلة، وهو أنه عالق في نفق أسود ولا يرى شيئاً. لكنّه في إحدى الليالي، وجد في الحلم فأساً، أخذه، وضرب حتى أزاح ظلام النفق، فانقشعت الرؤية أمامه على شيء جميل.
استعملوا لاحقاً فأساً بعد تفجير سيارته ليتمكّنوا من إخراجه منها، تذكر مازن.
صبيحة يوم الاغتيال، حضّر حسن خالد ركوة القهوة التركية التي كان يصنعها بمزاج، دخل الى غرفة مازن، وضع الفنجان الى جانب السرير، أيقظ ابنه ليشربها، ثم توجّه الى غرفته وترك مفتاح الخزنة في خزانة زوجته. خرج ومات.
كان مازن قد فضّل تمضية عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت جريمة الاغتيال مع رفاقه، خلافاً لرغبة والده، فتوتّر الجوّ بينهما. كان بإصراره أن أكون معن بالويك أند، كأنه عم يقول لي: أنا رح موت، ما عندي وقت، إبقَ معنا... وأنا وقتها كنت بأول العشرين وبدّي إضهر.
كأنّ الأب بتحضير القهوة لإبنه ذاك الصباح أراد أن يطمئنه، علّق مازن: كأنّه أراد أن يقول لي، لا تخف، مش زعلان منك، ما تحمل أي ذنب.
إبن الشهيد
استشهد الشيخ حسن خالد إثر انفجار عبوة ناسفة استهدفت سيارته وهو في طريق عودته من مكان عمله في دار الفتوى بمنطقة عائشة بكار في بيروت، كما أدّى الإنفجار الى استشهاد 16 شخصاً آخرين.
هذا ما جاء في الخبر، في ذلك اليوم من أيار 1989.
بتزعجني كتير كلمة شهيد. يمكن بتريّح بعض الناس لمّا يسمّوا يللي رحلّن شهيد، بس أنا بتذكر إنو لمّا كانوا يقولولي بيّك شهيد، ما تخاف ياحو بالجنّة، كنت إنزعج كتير. كأنن عم ينكروا عليّي رحلة الحداد.
رحلة الحداد هذه لم يتمكّن مازن من خوضها لأسباب متعدّدة. فهو بداية، لم يتمكن من أن يودّع أباه.
إذا مات له حدا للإنسان، لازم يشوفو. هيدا برأيي بساعد على الشفاء. أنا ما شفت بيّي، يمكن احترق. صار في إلتباس بدماغي، بضلّ إحلم أنو رجع. في جزء بدماغي منّو مستوعب أنو مات.
في فيلمه الروائي الطويل، Martyr «شهيد»، غاص مازن خالد في معنى هذه الكلمة. تزامن العمل على الفيلم مع تحوّل الثورة السورية الى حرب، وصارت الكلمة تُطلق على كلِّ من ذهب للقتال في سوريا ومات هناك: من يقاتل مع أو ضدّ، أصبح شهيداً. فأراد تعرية الكلمة من بُعدها السياسي.
الشهيد في الإسلام هو ليس فقط من يموت وهو يقاتل؛ من مات غرقاً أو من بعد معاناة مع مرض خبيث يُعتبر أيضاً شهيداً. المشترك بينهم هو الموت ظلماً أو بعد وجع كبير.
صوّر في فيلمه استشهاد شاب غرقاً، كان يسبح مع رفاقه في منطقة المنارة في بيروت.
أنا وعم بعمل البحث على الفيلم، تذكرت أنو عنّا صور لبيّي هوي وصغير، عمره فيها 16\17 سنة. صور من الثلاثينات أو الأربعينات، بالأبيض والأسود، لإلو ولأصحابه على الصخور على المنارة، كأنن بعرض لكمال الأجسام. نفس يللي صوّرتو بشهيد.
صوّر مازن في فيلمه أيضاً انتشال جسد الشاب الغريق من البحر، ومن بعدها كل مراسم توديع هذا الجسد وتغسيله: طلب الأب بالفيلم من أصحاب إبنو أنو هنّي يغسلوه، بدّو ياهن يفهموا الحياة من خلال فهم الموت.
كان هاجس مازن معرفة ما الذي يفقده المرءُ عندما يستشهد شخص قريب له. وعرف أنّ ما يخسره في الدرجة الأولى هو جسد هذا الشخص الذي كان موجوداً، وفي لحظة لم يعد.
من هنا أتى تركيزه في الفيلم على الجسد، على جسد الشهيد، ذلك الجسد الذي لم يستطع توديعه عند اغتيال أبيه، والذي يفتقده إلى جانبه. فأعطى لشخصيات الفيلم الفرصة التي انتُزعت منه ظلماً وغدراً، فرصة توديع جسد الحبيب الذي توفي. حبيبٌ قد يكون الابن أو الأب أو الأخ أو القريب أو الصديق أو العشيق. فالحبّ هو الحبّ، يقول مازن.
القتل المتكرّر واستحالة الحداد
لا يكفي أنه لم يتمكن من توديع أبيه، لا بل إن الطريقة التي انتُزع منه فيها تركت عنده جرحاً لم يلتئم، ممّا جعل رحلة الحداد مفتوحة، كما هو جرحه الذي يسيل من جديد كل فترة مع تكرار الجرائم التي تعيدُه للّحظة التي عاشها عام 1989.
يتذكّر مازن مشهداً محفوراً بذاكرته، يعود ليطفو بين فترة وأخرى. كانت محطّة الـLBC تنقل مخلّفات القصف الذي تعرّضت له السفارة الإسبانية في بيروت عام 1989، والذي كان السفير الإسباني في لبنان والكاتب اللبناني توفيق يوسف عوّاد من ضحاياه. كان مازن على معرفة شخصية بالأوَّل الذي كان صديق والده. أما الثاني، فقد قرأ نصوصه ورواياته في المدرسة. يذكر أن الكاميرا ثُبِّتتْ على جثّتي السفير والكاتب، وأنهما كانتا ممزّقتين ومشوّهتين. فقد وعيه يومها، ربط بعدها ذلك بما حصل لوالده.
هيدي هيي الذاكرة البصرية يللي بترجعلي كل ما يصير فيه حدث برجّعني على تروما مقتل بيّي.
ثلاثة اغتيالات حفرت عميقاً في مازن وفتحت جرحه: اغتيال الكاتب والصحافي سمير قصير، اللواء وسام الحسن، والكاتب والناشط السياسي لقمان سليم.
كان مازن يعرف سمير قصير: كنّا نكون بمحلّ عم نشرب كاس، وحدّي سمير قصير وجيزيل خوري. لما انقتل، كانت أول مرّة من بعد بيّي بينقتل شخص بعرفه. انقتل حدا منّا، مش شخص سياسي بعيد. من اغتيل هو منّا.
عند اغتيال وسام الحسن، يذكر مازن أنّ أمراً غريباً حصل معه، إذ أنّ إبن اللواء اسمه مازن أيضاً، فعندما سمع أحدهم يقول «نجل الشهيد مازن»، عاد بذاكرته الى يوم الثلاثاء 16 أيار 1989.
مقتل لقمان فتحلي الجرح كمان، إذ كان بين مازن ولقمان سليم معرفة شخصية أيضاً. كان مازن قد طلب من سليم أن يشارك في كتاب كان يعدّه عن رهاب المثلية. كتب الأخير لمازن وقتها رسالة بخطّ يده، وصف فيها إحساس العيش في مدينة يمكنها قتل سكّانها.
عامل أساسي آخر لم يمكّن مازن من إتمام حداده على مقتل أبيه، هو أن العدالة لم تأخذ مجراها، فالمجرمون يسرحون ويمرحون ولا يتوقّفون عن ارتكاب جرائم أخرى، لا بل ويؤدّون واجب العزاء.
فيه القاتل يللي أعطى الأمر برّات البلد، وفيه يللي نظّم ونفّذ بلبنان، وكلّن مذنبين. بس ما بصحّ إلا الصحيح، متل ما كان يقول بيّي.
فإن لم تأخذ العدالة القانونية مجراها، ستتحقّق العدالة الكونية، مهما طال الوقت، يقول مازن. والى ذلك الحين، يقوم ما في وسعه ليتعامل مع الخسارة.
الفقدان والخوف
فالاغتيال يصيب النفس على عدّة مستويات، أوَّلها الشعور بالفقدان، وهو شعور مشترك بين كل من خسر حبيباً. يُخبر مازن أنّ أباه كان رجلاً عقلانياً، يتعامل مع الأمور بمنطق علمي، إن في الحيّز العام أو الخاص؛ وأنّ اغتياله أتى بعد سلسلة من الاغتيالات التي طالت رجال دين متنوّرين، منهم صبحي الصالح. بدّن يغرقونا بالجهل. ما كانت المرا مجبورة تتحجّب لتشوف المفتي مثلا. وكان لما يُطلب منّي صلّي، وأنا ما إقبل، يقول لي إذا عندك أسئلة عن الموضوع خبّرني. وبسبب هذا الفكر المنفتح، يعتقد مازن أنّ أباه لو بقي حيّاً، لكان احترم الخيارات التي أخذها لاحقاً في حياته.
مع الإحساس بالفقدان الناتج عن الموت بشكل عام، يأتي موضوع الموت اغتيالاً، ليُظهر مدى الهشاشة التي تمسّ الفرد: بأي لحظة ممكن يجي حدا وياخد شي منّك. وهنا منبع الخوف الذي أسّست له جريمة الاغتيال في نفس مازن، فطغى على باقي المشاعر واستقرّ بين الأضلع. فهمت بعدين أنو الخوف عندي هوي الإحساس الأساسي، ومركبّة فوقه باقي الأحاسيس. صرت خاف إخسر حدا تاني، خاف أطلع بالطيارة، حسّ بكل لحظة أنو رح موت.
ما زال الخوف موجوداً، لكنه أصبح مرئياً لمازن الذي قرّر أن يفهمه ويعانقه بدل إنكاره ومحاربته.
33 سنة مرّت على جريمة اغتيال المفتي حسن خالد. النظام السوري المتّهم بإصدار أمر الاغتيال ما زال قائماً، يغتال شعبه ومعارضيه في الداخل والخارج. حصلت الجريمة خلال فترة تفجيرات متنقّلة وقصف عشوائي نتيجة الحرب التي أشعلها ميشال عون آنذاك ضدّ التواجد العسكري السوري.
وها هو عون ذاته، بعد 33 سنة، وقد صار حليفاً للنظام السوري، يرأس عهداً مشؤوماً، قاد البلد إلى الانهيار الكبير.
ما بصحّ إلّا الصحيح، بالعودة لما قاله مازن نقلاً عن المفتي حسن خالد، وبانتظار العدالة، سيبقى مازن ومعه كثر، يذكرون دائماً مَن رحلوا جسدياً وينتجون فنّا ويحبّون ويتعاملون مع الجراح والخوف والفقدان والظلم، ويظلّون يطرقون جدران الظلام حتى يخرج النور.