إنّها نهاية العالم، إنّها ولادة عالمٍ جديد. بات هذان التصوُّران عن جائحة كورونا شائعَيْن جدّاً.
فعلى سبيل المثال، يرى كيسنجر أنّ تفشّي الفيروس قد يُغيّر النظامَ العالمي للأبد، مُعلِّلاً ذلك بأنّ الاضطرابات السياسيّة والاقتصاديّة التي ستنتج عن هذه الأزمة الصحيّة، قد تستمرّ لأجيال.
أمّا الحُجج التي تدعم توقُّعَه بأنّ تلك الاضطرابات ستدوم لمثل هذه الفترة الطويلة للغاية (لنَقُلْ جيلَيْن فحسب، أيّ ما لا يقلّ عن نصف قرن)، فلا نعثر على أيّ أثرٍ لها في مقالته؛ ذلك أنّ كيسنجر، على ما يبدو، يستعيض عن المُحاججة بصيته كدبلوماسيّ مُحنَّكٍ ونافذِ البصيرة، له مِن التبحُّر في علوم الغَيْب ما ليس لغيره.
إنّها، إذاً، نهايةُ العالم كما نعرفه.
في المقابل، ثمّة مَن يرون أنّ ما نعيشُه لَهوَ فرصةٌ تاريخيّة، منقطعة النظير، لبناء عالم جديد على أنقاض القديم. ذلك ما يُمكن استخلاصه، مثلاً، من مقالة الكاتبة والروائيّة الهنديّة أرونداتي روي، التي تصف فيها الآثار المأسويّة، على الطبقات الشعبية والفقيرة، لإجراءات الحكومة الهنديّة الهادفة لاحتواء تفشّي فيروس كورونا.
هذه المقالةُ، وعلى عكس تلك التي كتبها الدبلوماسي المُحنّك، تستحقّ القراءة، ولا يشوبها سوى خاتمتها الملحميّة النبوئيّة، حيث تُبشِّرُنا الكاتبةُ بأنّ الجائحةَ الحاليّة هي بوابةٌ بين عالمٍ وآخَر، وبأنّه يمكننا عبور هذه البوابة إمّا مُثقلين بضغائننا وجشعنا وأفكارنا الميتة، وإمّا مُتخفِّفين من عبء كلّ ذلك، مُستعدّين لتخيِّل عالمٍ آخَر وللكفاح مِن أجله.
إنّها، إذاً، ولادةُ عالمٍ أفضل مِن رحم العالم الذي نعرفه.
ليس هذان التصوُّران مُتناقِضَيْن إلّا ظاهريّاً، ذاك أنّهما مجرّدُ نسختَيْن، مُختلفتَيْن بعض الشيء، عن تصوُّرٍ واحدٍ، باطنه دينيّ، هو التالي: لقد شارف العالم على نهايته، لقد اقتربنا مِن يوم الدِّين أو الحساب، لم يعد لدينا الكثير مِن الوقت، نحن أمام امتحانٍ وعلينا أن نُثْبت سريعاً– كأفرادٍ، وكجنسٍ بشريّ أيضاً– أنّنا نستحقّ الخلاص.
ما يُميِّز النسخَتَيْن واحدتهما عن الأخرى هو اختلافُ تعريفِ كلٍّ منهما للخلاص. والاختلاف هذا سياسيُّ الطابع.
هناك، من ناحية،
التعريف «المُحافظ» للخلاص (كيسنجر مثالاً): التمسُّك بأهمّ إنجازات البشريّة، أي بالقيم الليبراليّة والنظام الاقتصادي الحرّ، كي نحملها معنا إلى عالمِ ما بعد دمار العالم، فنتفادى هكذا الوقوعَ في البربريّة أو التوتاليتاريّة.
وهناك، من ناحية أخرى،
التعريف «التقدّميّ» للخلاص (أرونداتي روي مثالاً): نبذ أسوأ ما ابتكرته البشرية، أي جشع النظام الرأسمالي، كي لا نحمله معنا إلى الغدِ الجديد، فنستطيع حينئذٍ بناءَ عالمٍ أكثر عدالة.
بالرغم من هذا التباين في تعريف الخلاص، فإنّ النسختَيْن تعودان للتطابق في ما يخصّ تحديد تقنيّات نَيْل الخلاص. إن استثنينا مِن المُعادلة كلّ مَن لا يستطيع حَجْرَ نفسه نتيجة طبيعة عمله (الممرِّضات، الأطبّاء، عمّال النظافة، موظَّفو متاجر الأغذية، إلخ)، فالسؤال هو:
ماذا ينبغي على بقيّة الأفراد، وهم الأغلبية، فعله كي يستحقّوا الخلاص؟
بحسب نسخَتَي التصوُّر أعلاه، ينبغي على الفرد:
- أن يتضامَن مع غيره، مع البشرية جمعاء.
- أن يُراجع حياته وطريقة عيشه ليمَيِّز فيهما الصالح مِن الطالح، ثم ليتمسَّك بالصالح (أكان العشق، أمّ حبّ العائلة، أمّ التوق إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، إلخ) ويحمله معه إلى عالم ما بعد الوباء.
لكن ماذا يعني ذلك كلّه؟
عمليّاً، لا يُقصَد بالتضامن مع البشريّة سوى الحجْر المنزلي والتباعد الاجتماعي بُغية الحدّ من انتشار الفيروس. لكن كيف تَحوَّل الحجْر والتباعد إلى فضيلةٍ فصارا يُسمّيان تضامناً؟ لعلّ مردّ ذلك أنّهما يُشبهان، إلى حدٍّ بعيد، الزُهدَ والتنسُّك الممارسَيْن في كثير مِن الأديان. أمّا مراجعة المرء لحياته كي يعثر فيها على الصالح ويتمسّك به، فهي النظير العلماني للتقوى والإيمان.
الزُهد بالدنيا، والإيمان: هكذا ننال الخلاص بحسب المبشِّرين العلمانيّين، المُحافطين أو التقدميّين، والذين باتوا يتفشّون كالوباء.
أمام الويلات، وكي لا نعترف بعجزنا، يتحوَّل الفعلُ إلى سعي روحيّ وتنقيبٍ في دواخل الذات يُرجى منهما، وفق منطقٍ سحريّ دينيّ، إحقاقُ تغييرٍ في عالم الواقع. أمّا مقارعة تعقيدات هذا الواقع، والاعتراف بعجزنا عن فهمه أحياناً، فذلك ليس مِن اختصاص المُبشِّرين.