منذ عشرين عاماً، ملأ مليون لبنانية ولبناني ساحة الشهداء تحت شعار «حرية سيادة استقلال»، مطالبين بإنهاء الوصاية السوريّة على لبنان. وبعد انسحاب القوات السورية، لم يبقَ من هذه الثلاثية سوى شعار «السيادة»، الذي تحوّل إلى عنوان لمواجهة سلاح حزب الله والهيمنة الإيرانية على لبنان، ورسم خط تماس السياسة اللبنانية على مدى عقدين.
نجح مصطلح «السيادة» في تصويب جوهر المشكلة مع حزب الله الذي تحوّل بعد تحرير الجنوب إلى منفّذ لأجندات النظام الإيراني في المنطقة، محتكراً قرار الحرب والسلم ومتجاهلاً الدولة والمجتمع. لكن اليوم، بات شعار السيادة مثقلاً بإشكاليات وتناقضات عديدة. من جهة، حوّلت الأحزاب «السياديّة» شعار «السيادة» إلى رديف لقاعدة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وفرضت مقاربة أحادية البعد للسياسة اللبنانية، تجعل من أي شأن إصلاحي أو حقوقي شأناً ثانوياً أمام مسألة حزب الله، رغم مرور البلاد بأعنف انهيار اقتصادي واشرس معركة يخوضها أصحاب المصارف على المجتمع. ومن جهة أخرى، بعدما أضعفت آلة القتل الإسرائيلية حزب الله عسكرياً، وباتت إسرائيل تنتهك سيادة لبنان يومياً عبر احتلال مواقع استراتيجية على الحدود وقصف الجنوب والبقاع بإشراف من جنرال أميركي ومباركة دولية، أصبح شعار «السيادة» أسير تناقضات «السياديّين» الذين راهن بعضهم على آلة القتل الخارجيّة لإسقاط خصمهم في الداخل.
14 آذار 2005: نهاية الاحتكار المسيحي لـ«السيادة»
لم يكن مصطلح «السيادة» شائعاً في السياسة اللبنانية خارج أوساط الأحزاب المسيحية، إذ أنّ حركات المقاومة اليسارية والإسلامية لإسرائيل لم تتبنَّ هذا المصطلح كشعار لمعركة تحرير الأرض. فبقيت «السيادة»، على مرّ عقود، ذات وقع «مسيحي»، تُستخدم للدلالة على تمسّك القوى المسيحية بنهائية الكيان اللبناني واستقلاله، ولمحاربة المشاريع القوميّة واليساريّة التي كانت تهدّد سلطة المسيحيّين السياسيّة في الداخل.
بعد 15 عاماً على نهاية الحرب الأهلية، شكّلت انتفاضة الاستقلال عام 2005 مدخلاً جديداً لإعادة تعريف «السيادة» كعنوان لمشروع وطني أوسع من المفهوم المسيحي للبنان. ساهم استبداد نظام الأسد في لبنان على مدار 29 عاماً في بناء أرضيّة لبلورة وعي وطني جديد، إذ شكّل القمع الأسدي «تجربة لبنانية مشتركة»، من الإذلال على الحواجز إلى حملات الاعتقال والإخفاء القسري، طالت مواطنين ومناضلين ومثقفين من كافة الانتماءات.
جاءت انتفاضة الاستقلال بعد مسار تراكمي بدأ من التقارب المسيحي- الدرزي في «مصالحة الجبل»، ومن ثمّ المسيحي- اليساري عبر «المنبر الديمقراطي»، وصولاً إلى التحاق المكوّن السنّي لمعسكر «السيادة» بعد اغتيال رفيق الحريري. تلقّت القوى المسيحية آنذاك توسّع الحالة السياديّة باحتفالية لا تخلو من التعالي، إذ اعتبروا أن الخط السيادي «المستقيم» يمتدّ من بشير الجميل إلى 14 آذار 2005، وأن التحاق اليساريين والدروز والسنّة بهذا الخط هو بمثابة تصحيح متأخر لأخطاء الحركة الوطنية في الحرب الأهليّة.
إلا أنّ القوى اليسارية المنخرطة في انتفاضة الاستقلال تمسّكت بسرديّة جامعة لمقاربة السيادة، تحافظ على مسافة أيديولوجية مع الفريق المسيحي. فابتكرت حركة اليسار الديمقراطي حينها شعار «من مقاومة الاحتلال إلى انتفاضة الاستقلال»، راسمةً خطاً موازياً للسردية المسيحية، يتغنّى بمقاومة إسرائيل ويرى في معركة الاستقلال الثاني استكمالاً لهذه المقاومة. وهكذا انخرط قدامى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) في معركة «السيادة» إلى جانب خصوم الأمس من الجبهة اللبنانية.
ومع خروج الجيش السوري من لبنان، عاد شعار «السيادة» إلى وظيفته السابقة، أي وظيفة داخليّة لمواجهة خصم محلّي، أي حزب الله، يتسمدّ قوّته من هيمنة خارجية.
«السيادة» والفخّ الطائفي والإقليمي
في المقلب الآخر، وضع حزب الله نفسه في موقع التحدي لمعسكر «السيادة» دون حرج. اتّهم المنتفضين في ساحة الشهداء بتنفيذ أجندة أميركية-إسرائيلية، والمساس بمحور الممانعة في مواجهة إسرائيل، متجاهلاً التجربة المشتركة لقمع النظام السوري لدى اللبنانيين، والتي طالت الحزب نفسه في بداية مسيرته. ملأت صور بشار وحافظ الأسد ساحة رياض الصلح في 8 آذار 2005، ثم جاءت عبارة «شكراً سوريا» على لسان الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، لتنهي أي احتمالية إجماع وطني حول معركة الاستقلال الثاني.
لم تستطع أحزاب 14 آذار (أو لم تُرِد) تفادي الفخّ الطائفي الذي رسمه حزب الله آنذاك بمحاولة فصل الطائفة الشيعية عن معركة الاستقلال. فجاء الردّ متأخراً، عبر «الاتفاق الرباعي» الذي جمع تيار المستقبل والحزب الاشتراكي والثنائي الشيعي، كمحاولة لاستيعاب حزب الله ضمن اللعبة الطائفية.
بعد خروج الجيش السوري من لبنان، عملت أحزاب 14 آذار الطائفية على تحييد القوى المدنية واليسارية المشاركة في انتفاضة الاستقلال، وإقصاء دور المناضلين غير المنتمين إلى البنى الحزبية الطائفيّة. ومع احتكار تلك الأحزاب لإرث انتفاضة الاستقلال، تحوّلت معركة السيادة إلى مواجهة بين تحالف سنّي- درزي- مسيحي لإضعاف حزب الله «الشيعي». ورغم صوابية وأحقيّة المواجهة مع سلاح حزب الله، لم يكن لدى القوى «السيادية» ما تقدّمه من طرح وطني وسيادي جامع يستطيع محاكاة جميع الطوائف. فلجأ «السياديون» إلى شدّ العصب الطائفي، أو الرهان على القوى الخارجية.
لطالما كانت علاقة السياديين مع التقاطعات الخارجيّة اشكاليّة ومتقلّبة. فيصرّ بعض السياديين على التأكيد أن أي تحالف مع الخارج ليس إلا لحماية لبنان من مخاطر خارجية أخرى. لكن في الواقع، لطالما بنت الأحزاب الطائفيّة «السيادية» علاقة مع الخارج تسمح لها بتعزيز نفوذها في الداخل.
في رهانهم على الخارج، اصطدم «السياديون» باعتبارات جيوسياسية. فانسحاب القوات السورية من لبنان لم يكن ممكناً لولا تقاطع الإرادة الشعبيّة مع المصالح الغربية، كما لم تكتمل مفاعيل الانتفاضة لأسباب خارجية أيضاً. فالتقارب السعودي- السوري عام 2009 فرض على سعد الحريري زيارة بشار الأسد والتطبيع مع النظام، وأدّى الى تدجين «السياديّين» ضمن حدود الواقعيّة السياسيّة، والتخلي عن بعض طموحاتهم في تحقيق العدالة. ومن ثمّ، أثبت اخراج سعد الحريري من السياسة اللبنانية بقرار سعودي، أن الأحزاب «السياديّة» تعاني من هشاشة التحولات الجيوسياسية، الى حد يشبه خصمها حزب الله. تحالفات قوى 14 آذار الإقليمية جعلت مشروع السيادة، رهن الصراع الإقليمي بين إيران والسعودية. وفي زمن الثورة السورية، كان السيادييون أشدّ المراهنين على كسر حزب الله في الداخل. وفي زمن التطبيع بين اميركا وايران، عادوا إلى حكومات الوحدة الوطنية مع حزب الله.
17 تشرين: معانٍ أخرى للسيادة
بعد تناوب حكومات الوحدة الوطنيّة والمحاصصة على السلطة وتفريغ السياسة من معناها وإيصال البلاد إلى حافة الانهيار الكامل، شكّلت انتفاضة 17 تشرين في منظار الكثيرين استكمالاً لمسار بدأ عام 2005. مسار يجسدّ إرادة شعبية عارمة في استعادة البلد بعد تحريره من كلّ الجيوش المحتلة. ودون أن تتبنّى 17 تشرين شعار «السيادة»، قدّمت مقاربة جديدة لمفهوم السيادة، بمعنى، حق اللبنانيين في تقرير مصيرهم، والتحرّر من سطوة منظومة «داخليّة» تحتّل الدولة. أعادت 17 تشرين إلى الواجهة العناوين الاقتصادية الاجتماعية والمطالب الحقوقية، التي لطالما طمستها القوى السياسية خلف المعارك الكبرى، ومنها القوى السياديّة. أصبحت «السيادة» بمفهومها التشريني أكثر شمولاً من إرث 14 آذار، إذ تعني سيادة الشعب واستقلاله عن سطوة السلطة المافيوية، وسيادة الدولة عن كلّ هيمنة خارجيّة.
ومجدداً اختار حزب الله التصدي لهذه الموجة الشعبية وتجاهل الغضب الشعبي والمعاناة الاقتصادية التي طالت الجميع، ومن ضمنهم جمهوره. فلجأ إلى أسلوب التخوين نفسه الذي اعتمده عام 2005، مما دفع 17 تشرين إلى خطاب أكثر شراسة في مواجهة الحزب. ردّة فعل حزب الله العنيفة، وترؤسه مهمّة إخماد الانتفاضة الشعبية، أعادا شعار «السيادة» إلى الواجهة، كموضع خلاف ضمن الحالة التشرينيّة. ففيما اعتبر بعض التشرينيين أنّ تبنّي شعار «السيادة» يتماهى مع صراع طائفي بين أحزاب 14 آذار وحزب الله، اعتنق آخرون السيادة دون حرج، وعزّزوا من كون معركة مواجهة الحزب ذات أوليّة على باقي القضايا الاصلاحيّة.
استمرار حزب الله في مسار الثورة المضادة، عبر عرقلة تحقيق انفجار المرفأ وحماية المصارف، أعاد الحديث في البلد حول مركزيّة مسألة حزب الله في عرقلة مسار التغيير. فاسترجعت الأحزاب «السياديّة» زخمها، واستكملت الانقلاب الذي بدأه حزب الله على 17 تشرين، للتفرّد بالصراع مع الحزب.
السيادة في الزمن الإسرائيلي
بعد هزيمة حزب الله العسكرية وانحسار الهيمنة الإيرانية على لبنان لصالح إسرائيل، لم يعد لشعار «السيادة» مستقبل واضح. كيف يمكن مقاربة السيادة في زمن الهيمنة الإسرائيلية المطلقة، وإملاء إدارة ترامب على دول المنطقة سياساتها، وعجز الدولة عن التصدي لانتهاكات العدو اليومية، وانهيار معادلة الردع؟
يبدو أن الإجابة على هذا السؤال ليست أمراً ملحّاً لدى طرفي الصراع الداخلي في لبنان، أي حزب الله والقوى «السيادية» على حدّ سواء. خلال الحرب، لم يخفِ بعض «السياديين» حماستهم للتخلّص من حزب الله على يد إسرائيل، كما حصل عام 1982 مع منظمة التحرير. وبعد وقف إطلاق النار، لم يمانع هؤلاء الهجمات الإسرائيلية المتكررة على لبنان واحتلال إسرائيل لمواقع استراتيجية على الحدود، بحجة عدم التزام حزب الله بتسليم سلاحه. ومع تصاعد شعبية الخيارات التقسيمية ضمن البيئة المسيحية، لم يعد من المستغرب أن نشهد تخلّي جزء من القوى المسيحية عن مفهوم السيادة ورفضهم أي وجود خارجي على كامل الأراضي اللبنانية، وهو المفهوم الذي لطالما دافعوا عنه. الرغبة في «الطلاق» مع باقي مكونات البلد قد تمهّد لمقاربة جديدة للسيادة، تنتقل من «لبنان الـ 10452 كلم²» إلى «ما بيشبهونا»، أي من حقّ اللبنانيين في تقرير مصيرهم إلى حق الطوائف في إدارة شؤونها.
عدم استحداث معنى جديد للسيادة بعد فقدان «السياديين» خصمهم المفضّل، قد يفتح المجال أمام فرز جديد في السياسة اللبنانية. لم تعد للأحزاب السيادية القدرة على التلطّي وراء مسألة حزب الله لتفادي المواضيع الملحّة المتعلقة بالإصلاح المالي والاقتصادي والقضائي والإداري. وربما يفسّر ذلك استشراس لوبي المصارف في حملته المتواصلة عبر محطات التلفزيون، لسدّ الفراغ الذي خلّفه اضعاف حزب الله، واستباق المعارك الإصلاحيّة المقبلة التي تهدّد بمصالحهم. هزيمة حزب الله وضياع شعار «السيادة» في الزمن الإسرائيلي باتا عاملين كفيلين ببلورة مقاربة سيادية جديدة، لا تكون أسيرة الرهانات الطائفية ولا المطامع الخارجية. سيادة شعبيّة تنطلق من استعادة المجتمع لدوره كمصدر السلطات، وسيادة الدولة، في بناء قدراتها الدفاعيّة وردعها لهيمنة المحاور الخارجية.