يوميات فلسطين
محمود وفيق الشرقاوي

لعنة الخيمة

2 أيلول 2024

تلك البقية من شعبي ومن بلدي ما بين باكٍ ومجنون ومرتعد
تلك البقية من شعبي فذاك أبي وتلك أمي وما في الخيش من أحد
إن جئت تسأل عن أطفالها صرخت وقهقه السيل لم تحبل ولم تلد
يا من نصبت لهم سود الخيام على صفر الرمال لقد غاصت إلى الأبد
ألست جلادهم فاربط غريقهم واسحبه خلفك بالأمراس والزرد
واترك لأطفاله آثار جثته دما توهج فوق الرمل والزبد
– معين بسيسو، «السيول» من ديوان فلسطين. 

سألتُ صديقي إسلام عن حاله وإخوته، فأجابني أنّ شيئًا غريبًا يحدث لهم مؤخرًا، وأخذ يبيّن التغيّر العميق الذي طرأ على طباعهم وظهر في ردود أفعالهم، فقد قصر صبرهم وضاق صدرهم، وباتت الخلافات تحتدم بينهم لأتفه الأسباب. بعد شرح مستفيض استخلص أنهم أصيبوا بلعنة الخيمة، أقارن توصيفه للحالة بما يعتريني من أعراض، يغادرني بعد أن وصلتُ أخيرًا لتشخيص المرض الذي أصابني والناس من حولي… إذًا هي لعنة الخيمة! 

على باب الخيمة، يخلع النازحون آدميتهم كما يخلعون أحذيتهم، فطبيعة المكان لا تسمح بها. سقفها المنخفض وبابها الضيق سيجبرانك على إحناء ظهرك عند الدخول، كأنك تبدي لها الطاعة والاحترام. في الخيمة، سيتصبب جسمك عرقًا كما لو أنّك تلقى ملكاً عظيماً، وفي ليالي الشتاء القارصة سترتجف ولن تعلم أهو البرد أم الذعر من أصوات القذائف المتساقطة في المحيط. واقع سوداوي جعل من الناس مسوخًا.


رحلة الحصول على اللعنة

قد يتوهّم القارئ أن الحصول على الخيمة لهو أمرٌ سهل، وأنّ المعاناة تكمن في العيش بداخلها فقط. ولكنّ الحقيقة هي أن المعاناة تبدأ لحظة تخطو بقدمك اليسرى عتبة البيت الأولى، تاركًا خلفك ماضيك والذكريات، ملابسك والأحذية، مقتنياتك الثمينة وكرامتك المتوفية، وفي الطريق إلى مكان النزوح الأول سيسقط منك ما تبقى من كبرياء. في حديث مع السيدة فداء أبو مريم، تستعيد لحظات النزوح الأولى: الخروج من البيت تجسيد حقيقي لخروج الروح من الجسد، وكأنك في نزاع بين بقائك وخروجك، وفي كلتا الحالتين أنت بين موت الفراق والموت المعنوي، أي أنك تمشي بجسدك فقط.  وتكمل شارحةً: بعدها يصبح بيتك خلفك، تسمع عنه أخبارًا متقطعة بين الحين والآخر، وتنشغل بإيواء نفسك والأطفال، شريدًا من منزل صديق إلى بيت قريب وأخيراً تجد نفسك في الخيمة.

في مشقّة الحصول على «اللعنة»، ستضطر لدفع ثمنها مضاعفًا، وإن كنت لا تملك ثمن لعنتك، فإنك ستجبر مرّة أخرى على التنازل عما تبقى من كرامتك. أمام باب خيمته المتهالكة، يروي لي محمد الوادية كيف أنّه طرق كل الأبواب للحصول على خيمة تؤويه وعائلته من برد الشتاء وحر الصيف ولكن دون جدوى. يجلس على كيس رمل جعله مقعدًا: قبلنا بالخيمة والخيمة مقبلتش فينا! أربع مرات نقلت الخيمة من مكانها وظبطتها وبرضه لسه بتنزل عليا مياه وبالصيف ساونا، لأنه زي ما إنت شايف… خيمتي شوية نايلون! يرمق محمد خيمته بنظرات ازدراء، وكأنه يريد أن يلكمها، يصفها لنا ونرى في نظرته ازدراء وكأنه يريد أن يضربها، يسكت هنيهة ثم يردف: خيمتنا خيبتنا.

وأنتَ إن تمكنت من الحصول على الخيمةِ بإحدى الطريقتين، غالبًا لن تجد مكانًا تنصب فيه لعنتك، وإن حدث ووجدته، فإنك ستفقد هذا الإمتياز عند أول نزوحٍ جديد. فها أنا كنت نازحًا في دير البلح، ومع توتر الأحداث فيها اضطررت لحمل خيمتي وأنزح مجدّدًا نحو مواصي خانيونس، وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم أجد بقعةً أنصب فيه لعنتي. في هذا الحيّز الضيق الخالي من مقومات الحياة حيث لا توجد فسحة لموطئ قدم، أجدني مكرهًا على مشاركة أخي لعنته، لأختبر صنفًا جديدًا من اللعنة.


مقبرةٌ بها أحياء

يموت الناس هنا بأشكالٍ مختلفة، يختبرون حياة لم يعهدوها، طبعت الظروف القاسية شخصياتهم وردود أفعالهم. خلال دردشة مع السيد محمود عفانة، وصف حياته في الخيمة قائلًا: مكنتش بتصور في حياتي أعيش في خيمة، ولكن بعد ما صارت أمر واقع حاولت أتأقلم وأتقبل… لكن مش قادر أتقبل ولا أتأقلم! يثقله الرفض، فيجد محمود نفسه يصارع نفسًا جديدة فيقول: أحياناً بحس إنه بعرفش حالي، بعصب كتير وبتنرفز من أبسط الأشياء، وهادا الإشي أثّر على علاقتي مع أهلي، مش قادر أتأقلم على حياة كلها ذل، من الصبح بدك تعبي مي وتخبز العجين وتجري ورا الصغار… حياة تقصر العمر!

حياة الخيمة ليست بحياة، فلا خصوصية ولا هدوء، ومن موقع النساء يبدو الأمر أكثر صعوبةً، تروي لي السيدة أماني الحرتاني مأساة النسوة في الخيام: الخيمة مهما وسعت ضيقة، ومفيش فيها أي مكان للخصوصية. أغلب الوقت أنا بكامل ملابسي ومغطية شعري، تخيل إنت عشر شهور على هذه الحياة، أوقات بنسى إنه إلي شعر أساسًا. ولكنها مأساة من مآسٍ لا تحصى، توضح أماني، هي التي تضطر أن تقف في طابور المياه في ظل غياب رجال العائلة، يضاف إلى ذلك مهمّات حياتية يومية كتحضير الخبز وإشعال الحطب وغسل الملابس يدويًا، كل يوم بصحى عشان أعمل نفس الأشياء، وكأنه بعيد اليوم نفسه، والله بطلت أعرف حالي لا بالمرايا ولا حتى نفسياً، تردف السيدة.

يعيش الناس هذه اللعنة رغمًا عنهم. في محاولة لكبح تأثير الخيمة عليه وعائلته، قام صديقي إسلام الدردساوي بجمع أفراد الأسرة وخطب فيهم خطبة مطوّلة ليشرح لهم أنهم قد وقعوا الآن تحت تأثير لعنة الخيمة، وعليهم قدر ما استطاعوا أن يسمحوا لها بالسيطرة عليهم. أنا قلت لهم هذه لعنة الخيمة، ما دام دخلتها بدك تقبل بأحكامها، أهم حاجة تحاول قدر الإمكان تطلع منها بأقل خسائر، يقول إسلام وهو يعتقد أن تأثير هذه اللعنة سيرافقه سنوات طويلة، لكنه غير آبه بذلك حاليًا، جلّ ما يهمه الآن هو أن يغادر هذه الخيمة إلى البيت بأي طريقة.

الخيمة والخيبة، حرفٌ واحد لا يغير من حقيقة الأمر شيئًا، فالنازح لا يرى بالخيمة والنزوح إلا خيبته. خيمتنا خيبتنا… يقول محمد الوادية ويكمل شارحًا: هذه مش لعنة وحدة، هذه لعنات! لعنة النزوح ولعنة الخيمة ولعنة الأمل ولعنة اليأس ولعنة الفقروعدّ قد ما بدك لعنات… يدرك محمد أن الخيمة مجرد رمز، فحياة النزوح كلها لعنات، والمعجزة وحدها ستغيّر هذا الواقع.

على مقلب آخر من اللعنة، تحدّثني السيدة فداء أبو مريم قائلة: ثمّة صفة مستحدثة أضيفت لهويتي الغزية، فقد كانت صديقتي تعرّفني إلى إحدى معارفها حين أضافت: نازحة بالوسطى، ومرّة ذهبت مع سيدة بخانيونس إلى السوق وفي مجرى الحديث قالت لجارتها: هذه فداء نازحة عنا. تدرك فداء أن هذا ما سيكون عليه شكل التمايز الطبقي الاجتماعي مستقبلًا- كأن تقول مثلًا أنا لاجئ من يافا عام ١٩٤٨، سكنت مدينة غزة وحاليًا نازح في المواصي- هي مجرد صفة، لكنّ فداء تعي جيدًا الألم الكامن في تفاصيلها.


الكارثة بالأرقام

بدعم أميركي تشن إسرائيل منذ 7 تشرين الأول 2023 حربًا مدمرة على غزة خلّفت أكثر من 132 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعةٍ قاتلة. هذه المآسي كلها تتفاقم وتزيد حدّتها وتأثيرها على الناس عندما تجتمع مع النزوح. ومع بداية حرب الإبادة، أصدر الجيش الإسرائيلي تعليمات بإخلاء أكثر من ثلاثة أرباع مساحة قطاع غزة، وإنّ إجمالي المناطق المحدّدة كمناطق إخلاء تبلغ 281 كيلومتراً مربعاً، ما يعادل 77% من إجمالي مساحة القطاع. 

تقول الأمم المتحدة أن 9 من كل 10 أشخاص في غزة نزحوا مرة واحدة على الأقل، وفي بعض الحالات 10 مرات. وقال مسؤول أممي إن أحدث التقديرات تشير إلى نزوح 1.9 مليون شخص في غزة مرات عدة وإن جميع السكان تقريبًا بحاجة إلى المساعدة، منبهًا إلى أن الحرب في غزة تستمر في خلق مزيد من الألم والمعاناة. وقد ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن أمر الإخلاء الجديد الذي أصدره الجيش الإسرائيلي، صباح الجمعة 17 آب 2024، قلص مساحة «المنطقة الإنسانية» التي حددتها إسرائيل إلى 11% من مساحة غزة فقط.

هذه الأرقام وغيرها لن تفي المأساة حقها بالوصف، فالقارئ يظنّها مجرد أرقامٍ ولا يشعر بها، بل قد ترهقه قراءتها ومقارنتها بالنسب فيتجاوزها. هذه الأرقام ألمٌ لا يدركه إلا النازح، ولا يكتب عنه سواه.

أما غزة لمن لا يعرفها، ويراها من خلف الشاشات أكوامًا من الحجارة، ويظنّ أنّها لطالما كانت كذلك، وسكانها معتادون على الألم ويتصفون بالصمود فقط، فإنها رغم الحروب كلها هي مدينة الجمال، تطلّ على ساحل المتوسط كما لا تطلّ مثيلاتها من المدن. هي مدينة متقدمة عمرانيًا وشوارعها نظيفة، أما سكانها الذين يعيشون اليوم في الخيام، فقد كانوا يعيشون في بيوت مجهزة ومتطوّرة، والمجتمع متعلمٌ ومثقف عمومًا، يحب فيها الناس الحياة ما استطاعوا إليها سبيلاً. كانت حياتهم في غزة كما في بيروت، يعملون في الصباح ويرتادون الحدائق والبحر مساءً. يشاهد الرجال كرة القدم وربما يشجع معظمهم ريال مدريد، وتهتّم النساء بالموضة، ويحب الأطفال المرح. كان مجتمعاً دافئاً وجميلاً قبل أن يقرّر صناع الدمار خلف الجدار نسف كل ما سبق، لتصبح غزة أكوامًا من الحجارة وأشخاصًا من الحجارة وقلوبًا من الحجارة. 

خيمة مذعورة في رحاب المكان مصلوبة منسية في الزمان
حيرى على أوهامها في المدى لا حب في سمائها لا حنان
مشدودة في الأرض معصوبة كأنما شدت بأيدي الهوان
يا خيمتي السوداء ظلي هنا ذكرى على أشلاء حكم جبان
– كمال ناصر.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
لائحة بأسماء شهداء غزّة من 649 صفحة بينها 14 صفحة لأطفالٍ ما دون السنة
إسرائيل تبتزّ طالبي اللجوء الأفارقة
هوموفوبيا الجامعة اللبنانية تهدّد موقعها الأكاديمي رئيس الجامعة يمنع مناقشة رسالة عن المثلية
تصعيد إسرائيلي على الجبهة اللبنانية: جاهزون لاحتلال الشريط
جيزيل بيليكو تشكر داعميها: بفضلكم أواصل المعركة حتّى النهاية
الشتاء يقترب: موج البحر يطال خيام النازحين