الحرب على الموت
عادت بعض القرى والبلدات التي ترسم خارطة لبنان «جنوب نهر الليطاني» إلى أهلها. عُدنا ونحن محاطون بالموت، نرى ملامحه أينما التفتنا، يواجهنا في صور الشهداء المعلّقة على جدران ضِيَعنا وعلى ركام المباني المسحوقة، نصادفه في الوجوه الصغيرة المطبوعة على دبابيس مثبتة فوق عباءات الأمهات والجدات اللواتي بتنَ يحملنَ ذكرى أطفالهن وأحفادهن معهن.
بدأت أحياؤنا تنعى أبناءها، ومن بينهم شباب قاتلوا واستشهدوا وعائلات كاملة قتلتها إسرائيل. كلّهم رحلوا ولن يعودوا ليكملوا حياتهم بين جيرانهم. في ساحاتنا وبين شوارعنا شهدنا على تشييع جثامين العشرات من المقاتلين، لنتذكر أن غيرهم ما زالوا مفقودين مجهولي المصير.
للموت حرمته، وطقوسه وعاداته الخاصة، يُحييها الأهل والأحبة لحظة الفقدان. يُدفن الراحل، تُقبل التعازي، يجتمع الأحبة، تُقام الصلوات، تُذرف الدموع، ويُصرخ الوداع الأخير. ولكن في وجه حرب لم تنتهِ، كيف ينعى مجتمعٌ شهداءه وموتاه عندما يتزايد عددهم يومًا بعد يوم؟
إسرائيل تلاحقنا حتى في الموت. في البلدات الحدودية، يطلق الجندي الإسرائيلي النار على العائلات وهم بصدد دفن أمواتهم، ويأتي بالـ«ميركافا» ليجرف مقابرنا. الموت لا يردعهم.
بين 23 و24 أيلول 2024، شنّ الجيش الإسرائيلي على لبنان واحدة من أعنف موجات القصف الموثقة في تاريخ الحروب الحديثة. اضطر جدّي وهو في التاسعة والثمانين من عمره إلى مغادرة منزله في ضواحي صور تحت هذا القصف العنيف. تحمّل رحلة طالت تقريبًا 20 ساعة من صور إلى بيروت، وترك خلفه بيتًا بناه قبل أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، حيث احتفظ بشقق لأولاده ليظلوا قريبين منه، وكبرنا نحن بين أزقته المطلة على بحر صور. لم يكن يريد المغادرة، وانتظر الهدنة ليعود. وبعد 66 يومًا، أصرّ على العودة إلى حيّه المدمّر. كان المبنى لا يزال قائمًا، لكنّ الحي بات مختلفًا، وكأن الحياة نفسها هُجّرت منه. لأسابيع، حاول أبناؤه ترميم ما تهدم ليعود إلى مأواه. ولم يمضِ شهر على عودته حتى رحل، في آخر كانون الثاني 2025، في غرفته التي شهدت سنواته الأخيرة وهو ينتظرنا لنعود. إسرائيل لم تقتله، لكنها سرقت منا فرصة وداعه.
متى يأتي الحداد؟
هناك شعور ساحق بأن أهل القرى الجنوبية المحررة وضيع البقاع المدمرة وأحياء بيروت المفرغة سيواجهون ثمن الصمود وحدهم وكذلك مسؤولية الحداد على من سقط بالحرب الأخيرة. فالمجتمع اللبناني هو مجتمع يرفض الحداد على ضحاياه. حتى اللحظة، الخطاب العام في لبنان لا يعكس قسوة واقعنا، ولم يقترب أحد من الطبقة السياسية أو الإعلامية من تقدير حجم الخسائر والتضحيات التي نعايشها. انقسم الخطاب السائد بين طرفين: الطرف الأول يحرض على الكراهية، يستهزئ بالشهداء وبالمقاتلين، ويستخف بمأساة الأهالي الذين عادوا إلى بلداتهم ليبحثوا عن أجساد أحبابهم تحت الركام بأيديهم العارية. أمّا الطرف الآخر، فيفرض علينا خطاب النصر المطلق ليُخفي الغضب ويعفي القادة من اخطائهم بحق المجتمع ككل. بين هذين النقيضين، نفقد حق الحداد، وهو حقنا بنعي كل روحٍ فارقتنا وبمصارحة صدماتنا الجماعية والحزن الشديد الذي يحيط بنا. فما هو مصير مجتمع يصرّ على تجاهل أمواته؟
أن تستحقّ الحداد الوطني
خلال الحرب، صرَّح بعض المعلّقين عن رغبتهم في مشاهدة عملية قتل جماعي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ليقضي على جميع مقاتلي حزب الله. وفي أعقاب وقف إطلاق النار، ورغم أنّ الجيش الإسرائيلي قَتَلَ 316 طفلاً وفقد لبنان أكثر من 4,047 مدنياً وأعداداً هائلة من المقاتلين، ورغم أنّ إسرائيل تواصل قصف وقتل اللبنانيين حتى اليوم، ظهر بعض الإعلاميين لكي يحللوا الوضع، وكأن كل هدفهم تجريد كل من ينتمي إلى حركة المقاومة الإسلامية من إنسانيته. أطلّ علينا مارسيل غانم، مثلاً، ليُعلن أنّ كلّ من يريد المقاومة لا يريد أن «يعيش»، بل إنّ كل ما يريدونه هو تذكير الآخر بأنه «يعيش بفضل تضحياتهم» ولذلك «لا يمكن التعايش معهم». وبهذا يتمّ تبرير عدم التعاطف مع ضحايا بيئة حزب الله، فهم أصلاً لا يريدون «العيش»، وكأن مارسيل غانم يحمّل كل شهيد من «بيئة حزب الله» مسؤولية استشهاده، متناسياً أنّ القاتل الذي حرم أولئك الشهداء من أن «يعيشوا» هو الجيش الإسرائيلي.
أعتدنا على الخطاب الإعلامي والسياسي الطائفي والمحرض على الكراهية. فبعد كل حقبة من العنف والقتل تمر علينا، نرفض الحداد على الموتى الذين نعتبر أنهم محسوبون على خصمنا السياسي، ربما لنبرر قتلهم في الحقبة الآتية. فالاعتراف بإنسانية مقاتلي حزب الله لا يعني بالضرورة تبني خطاب «محور المقاومة» ولا تجاهل تحالفات الحزب الكارثية- وفي مقدمتها انخراط الحزب، وبالتالي بعض هؤلاء المقاتلين، في صفوف نظام الأسد السفاح. كما أن رفض الخطاب الذي يصرّ على وصف حالتنا كانتصار لا يقلل من شجاعة الذين قاتلوا وضحّوا بأرواحهم لحماية الوطن. بين هذين النقيضين، يضيع حق الأهالي في التعبير عن آلامهم، في التأمل في خسارتهم، في البحث عن معنى وسط هذا الخراب.
الانتصار بدلاً من الحداد
رواية الانتصار على العدو هي أقوى ما يمكن أن تقدمه قيادة حزب الله لجمهورها. هكذا تتحول الخسائر الهائلة إلى تضحيات شريفة. وفي الواقع، الصمود والعودة هما بمثابة نصر في وجه مشروع استعماري يريد أن يُفرغ الجنوب من أهله، ولا شك بأن هناك شرفاً لا مثيل له بمواجهة الجيش الإسرائيلي وطموحاته الاحتلالية ومجازره الإبادية. ولكن إسرائيل شنت حرباً ضد لبنان وأرض لبنان والمقيمين في لبنان وليس فقط ضد حزب الله ومقاتليه. والواقع الأوسع الذي نلمسه اليوم كمجتمع لبناني (وليس فقط كبيئة حزب الله) لا يشبه الانتصار، بل هو أشبه بفاجعة مروّعة لا نعلم كيف سننجو منها.
رواية الانتصار لم تمحُ الغيظ والقهر، والصمت عن الخسائر لا يعفي القادة من أخطائهم القاتلة. حين يُختزل كل شيء في معادلة سياسية، يُحرم الأهالي من حقهم في الاعتراف والحداد والعدالة. اعتدنا ألا نتوقع الصراحة من قادة حزب الله، فلطالما كان التضليل الممنهج يضمن استمراريتهم قبل أن يصبح جزءاً أساسياً من أسطورتهم. لم يُعلن حزب الله حتى الآن عن عدد شهدائه، فبغية حماية قصة الانتصار، ساهم قادة الحزب بعزل حقيقة حجم الخسائر البشرية عن الخطاب العام، وبالتالي ساهموا بعزل أصوات الشهداء وآلامهم عن الذاكرة الجماعية التي بدأت تتبلور في لبنان. يصبح الحداد على هؤلاء الشهداء عملية منغلقة خاصة ببيئة الحزب، فيُمنع الأهالي من مشاركة ممارسات الحداد مع باقي فئات المجتمع اللبناني، وبالتالي يُحرمون من التشافي الجماعي الناتجة عن مشاركة كهذه.
الحداد المرفوض
انعدام خطاب عام قادر على التمييز بين ضرورة نعي شهدائنا من جهة، والترويج لبروباغندا سياسية من جهة أخرى، يُظهر فشلاً عميقا في مخيلتنا الإنسانية وحتى الأخلاقية. فيشكّل فعل الموت والحداد واحداً من أكثر التجارب الإنسانية المشتركة التي تصنع جامعًا للمجتمعات. فشلنا في إمكانية تخيّل حداد الآخر يقف عائقَا أمام قيام مجتمع تعددي قادر على احتضان جميع مكوناته وعلى ضبط العنف بين طوائفه. فما هو مصير مجتمع يصرّ على تجاهل أمواته وحدادهم؟ وكيف نطالب بحقوق ضحايانا إن كنا لا نعترف بهم أساسًا؟ حروبنا جميعًا انتهت بلا حداد، مع هروب إلى الأمام، ريثما ننسى من سقط باسم مستقبل متخيّل. لكن لا أحد ينسى أمواته، كما لا ينسى كيف تعامل معه مجتمعه عندما فقد أغلى ما لديه. الموتى الذين لا يكتمل حدادهم يتحولون إلى أشباح تحوم فوق المجتمع المجروح. ولا خروج من هذا الوضع إلّا من خلال نعي الضحايا، والاستماع إلى شهادات ذويهم، والاعتراف بالمآسي التي عاشوها والتي ستشكل هوياتهم المعقدة. من هنا يمكننا أن نشارك في التعافي والتشافي الذي يأتي بعد الحداد الطويل، ونتمكن بالتالي من فهم مجتمعنا وحتى أنفسنا بشكل يليق بالتضحيات التي قدمها كل شهدائنا.