يوميات ثقافة
طارق أبي سمرا

عندما اكتشفتُ أنّ مخيّلتي عمياء

27 أيار 2025

لطالما أزعجني الوصف البصري في الروايات، إذ كان يبدو لي حشواً رتيباً لا طائل منه. لست أقصد بذلك الإشارةَ العابرة إلى أنّ هذه الشخصيّة أو تلك سمينة أو نحيفة، أو أنّ شعرها أشقر أو أسود، أو أنّ السماء صافية زرقاء أو ملبّدة بغيوم داكنة، بل أعني ذاك الوصف التفصيليّ لمشهدٍ طبيعيّ، أو ملامحِ وجهٍ، أو فستانٍ ترتديه امرأة، أو حيٍّ في مدينة... كان ذهني يزدحم بمثل هذه التفاصيل البصريّة المتراكمة التي لا تلبث أن تتحوّل إلى ضجيج يُشعرني بأنّ رأسي قد امتلأ عن آخره ولم يعد قادراً على استيعاب أيّ شيء إضافي. لكنّني لم أكن أعير الأمر كثيراً من الاهتمام، فأُواصل القراءة.

إلى أن جاء يوم قرّرتُ فيه أن أفهم لماذا يُزعجني الوصف البصري إلى هذا الحدّ. كان ذلك قبل نحو عامين، حين كنتُ أُعيد قراءة رواية «الأب غوريو» لبلزاك، أحد أشدّ الروائيين ولعاً بالوصف البصري في تاريخ الأدب الغربي. تبدأ الرواية بوصفِ منزلٍ، لا المنزل وحده، بل الشارع الذي يقع فيه، فالحديقة الأماميّة الصغيرة، فواجهة المبنى، فالصالون، فغرفة الطعام، فالمطبخ، ثمّ غرف الطابق الأول، فالثاني، فالثالث، وصولاً إلى العليّة.

أرغمت نفسي على قراءة ذلك كلّه بتأنٍّ وتركيزٍ شديدَين، وأنا أُكرّر في ذهني سؤالين بسيطين: ما الذي يحاول بلزاك فعله بالضبط؟ وما جدوى كلّ هذه التفاصيل البصريّة؟ كانت الإجابة بديهيّة جدّاً، بل كنتُ أعرفها مُسبقاً، بالرغم من أنّني لم أَصُغْها لنفسي بوضوح من قبل: إنّه يصف المنزل كيّ يُكوِّن القارئ صورةً ذهنيّة عنه. إنّه يرسم المنزل (والشارع والحديقة والصالون...) بالكلمات. فما الذي يُزعجني في ذلك؟ 


أخذت أقرأ ببطء أكبر ثمّ أغمض عينيّ محاولاً تكوين صورة تجمع التفاصيل الكثيرة التي يوردها بلزاك عن المنزل: لا شيء. حاولت مراراً، لكنْ لا شيء. أقرأ، فأغمض عينيّ، فلا أرى أيّ منزل، ولو ضبابيّاً؛ لا أبصر سوى السواد. ولم أفهم لماذا لم أستطع أن أرى أيّ صورة في ذهني.

حاولت حينها أنّ أتخيّل شيئاً أبسط: تفاحة حمراء. أغمضت عينيّ ورحت أركِّز على فكرةِ «تفاحة حمراء»، لكنّني لم أستطع استحضار أيّ صورة. ثمّ حاولت أن أتصوّر دائرة، ثمّ مربّعاً، ثمّ اللون الأحمر، ثمّ وجوهاً لأصدقاء وأقارب، لكنْ لا شيء سوى السواد. كانت الفكرة حاضرةً في عقلي (فكرة «الأحمر» أو «الدائرة»، أو حتّى فكرة «وجه والدي»)، لكنّها لم تكن مصحوبة بأيّ صورة بصريّة.

لم أستغرب ذلك كثيراً، إذ خطر لي أنّ جميع البشر لعلّهم مثلي، يستطيعون استحضار أفكارٍ في أذهانهم، لا صوراً بالمعنى الحرفي– أي البصري– للكلمة. لكنّ ما حملني على التشكيك في صحّة هذا الاستنتاج هو صعوبة اقتناعي بأنّ الجهد الهائل الذي بذله بلزاك (وغيره من الكتّاب) في وصف كلّ ما يمكن أن يوصف لم يكن سوى عبث أو هباء. أيُعقل أنّ ربع ما تحتويه رواياته (أو ربّما أكثر) ليس سوى تمرين أدبي مجّاني، لا يترك أثراً في ذهن القارئ أو في خياله؟


هذا ما دفعني إلى إجراء بحث سريع على «غوغل» عن القدرة على تكوين صور ذهنيّة بصريّة، وما هي إلّا دقائق حتّى اكتشفت أنّني أعاني ممّا يُعرَف بـ«الأفانتازيا» (aphantasia)– وإن كانت عبارة «أعاني» غير دقيقة تماماً، إذ أنّ هذه الحالة لا تُعدّ مرضاً ولا خللاً. 

الأفانتازيا، ببساطة، هي العجز عن تكوين صور ذهنيّة بصريّة بشكل إراديّ. عندها فقط أدركتُ أنّ معظم الأشخاص، حين يتخيّلون تفاحةً مثلاً، يستطيعون «رؤيتها»، سواء أغمضوا أعينهم أم لا. أمّا أمثالي، الذين يشكّلون نحو أربعة في المئة من عموم الناس، فلا يرون شيئاً على الإطلاق.

«فانتازيا» (phantasia) في اللغة الإغريقيّة تعني «المخيّلة»، وقد عرّفها أرسطو بأنّها المَلكة أو القدرة التي تتيح لنا استحضار الصور الذهنيّة. بناءً على ذلك، تُشير «أفانتازيا» (aphantasia) إلى غياب هذه القدرة أو انعدامها، كما لو أنّ «عين العقل» مُصابة بالعمى. لذلك يمكن اقتراح «العمى التخيُّلي» ترجمةً غير حرفية لها.

العالم البريطاني فرانسيس غالتون هو أوّل من وصف هذه الظاهرة عام 1880، إلّا أنهّا بقيت مهملة ولم تحظَ باهتمام بحثيّ يُذكَر حتّى عام 2015، حين نشر طبيب الأعصاب البريطاني آدم زيمان (الذي صاغ مصطلح «أفانتازيا») وفريق من الباحثين دراسةً تناولت هذه الحالة. 

قبل ذلك ببضعة أعوام، كان زيمان قد عاين رجلاً فقد قدرته على تكوين صور ذهنية بصرية إثر خضوعه لعمليّة جراحيّة بسيطة في القلب، فنشر ورقة بحثية عن حالته. تناولت الصحافة هذه الحالة، ما دفع عدداً من الأشخاص إلى التواصل مع زيمان، إذ وجدوا أنّ وصفه لـ«المُخيّلة العمياء» ينطبق تماماً على تجربتهم– مع فارق جوهري، وهو أنّهم لم يفقدوا قدرة استحضار الصور كما حدث لذلك الرجل، بل لم يمتلكوها قطّ في أيّ مرحلة من حياتهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ معظمهم يرون صوراً بصريّة في أحلامهم. 

لا تزال أسباب الإصابة بالأفانتازيا غير معروفة بدقّة، إلّا أنّ بعض الأدلة تُشير إلى احتمال وجود دور للعامل الوراثي في ذلك. واللافت في هذه الحالة هو أنّها تكاد لا تؤثّر بتاتاً على القدرات الإدراكيّة للأشخاص المصابين بها. فباستثناء أنّ هؤلاء، عند استحضارهم ذكريات من حياتهم، يوردون تفاصيل أقلّ مقارنة بغير المصابين بالأفانتازيا، ليس هناك أي فرق يُذكر بين المجموعتَين.

مثلي، لا يدرك كثير من المصابين بهذا العمى التخيُّلي حالتهم إلا في مراحل متأخرة نسبيّاً من حياتهم، وغالباً ما يكتشفون ذلك بالمصادفة. ومثلي أيضاً، يظنّون أنّ «الصور الذهنية» ليست سوى تعبير مجازي. هذا ما كنت أعتقده، ولم أكن أولي الأمر كثيراً من الاهتمام، إذ كنت أظنّ أنّ ما يحضر في ذهني عندما أفكرّ بشخص أو بشيء ما إنمّا هو، ببساطة، صورة ذهنية. إلّا أنّه تبيّن لي لاحقاً أنّني لم أبصر يوماً صورةً ذهنيّة إلّا في أحلامي.


لكن ما هو هذا الشيء الذي يحضر في ذهني حين أفكّر بتفاحة أو بحصان أو بوجه شخص أعرفه؟ إنّه أمرٌ أربكني أكثر من اكتشافي أنّ معظم الناس يستطيعون رؤية صورٍ ذهنية، بينما أعجز أنا عن ذلك.

أُغمض عينيّ الآن وأفكِّر بتفاحة حمراء. أشعر بأنّ ثمّة تفاحة حاضرة في ذهني، وبأنّها حمراء أيضاً. أحاول أن أراها، لكن لا شيء. ومع ذلك فهي تبقى حاضرة. إنهّا كشبح تفاحة، لها شكل ولون، إلّا أن شكلها ولونها غير مرئيّين. فما هي هذه التفاحة؟ هل هي مجرّد مفهومِ أو فكرةِ التفاحة؟ لكنّني أستطيع «تخيّل» تفاحةً بعينها، تفاحة حقيقية لا مجرّدة، تلك التي أراها على الطاولة أمامي، فأغمض عينيّ وأستحضرها في ذهني.

الأمر نفسه ينطبق على الوجوه. أستطيع، مثلاً، استحضار وجه والدي ووصف ملامحه بشيء من الدقّة، لكنّني لا أراه في ذهني قطّ. فما هو هذا الوجه– وجه شخص بعينه– الذي لا يَدخُل في تكوينه أيُّ عنصر بصري؟

لكنّ ما يثير دهشتي أكثر من ذلك كلّه هو ذكرياتي. يمكنني، مثلاً، أن أستحضر مشهداً من ماضيّ وأصفه وصفاً بصريّاً دقيقاً إلى حدّ ما، لكن من دون أن تَصحَب ذلك أيّةُ صورة ذهنيّة. لا أفهم كيف أستطيع أن أفعل ذلك، ولا أفهم ما هو هذا الشيء الغريب العجيب الذي ينوب في ذهني عن الصور البصريّة.

يمكنني، إلى حدّ ما، أن «أتخيّل» كيف يستطيع معظم الناس تكوين صورٍ ذهنيّة بصريّة، مستعيناً في ذلك بتجربتَين: ما أراه في يقظتي حين أنظر إلى العالم، وما أبصره في مناماتي. لكنّ ما أعجز عن «تخيّله» هو كيف يعمل ذهني من دون أيّ صور بصريّة.         

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
حدث اليوم - الأربعاء 4 حزيران 2025
04-06-2025
أخبار
حدث اليوم - الأربعاء 4 حزيران 2025
عصابة أدوية السرطان:
04-06-2025
تقرير
عصابة أدوية السرطان:
شقيق علي حسن خليل وزوجته وآخرون
أسطول الحريّة يتوجّه إلى غزّة رغم تحليق المسيّرات
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 04/06/2025 
البنكرجي أنطون الصحناوي يدّعي على صحافيّين
جيش الاحتلال يختطف صيّاداً لبنانيّاً ويهدّد مختار يارون