الموظّف طارق بيطار: يخيفنا أحيانًا أن نرى في القاضي طارق بيطار نموذجًا يحمل هذا الكمّ من العصامية. لا يستطيع عقلنا أن يتقبّل مثل هذه الفكرة، كما هي، دون عشرات الشكوك. لقد عصف بنا النظام عميقًا، وضرب في ملكاتنا المعرفية والعقلية، لدرجة أنه ضرب مخيلة يمكنها أن تعتقد بإمكان وجود موظف يتمتع بمجموعة خصال تمنع النظام من إمكانية استهدافه عبر زلّة واحدة اقترفها. فبعد أشهر وأشهر، لم تجد قوى المافيا والميليشيا المتحكّمة في البلد أي قضية يمكن أن تبتزّ القاضي بيطار فيها وبها.
الموظف رياض سلامة: من المستغرب أكثر أن يتزامن، في نظام واحد، تواجد شخصية من صنف «الموظف» طارق البيطار مع شخص من صنف «الموظف» رياض سلامة. فالأخير نقطة التكثيف والتقاطعات في محاولات إعادة إنتاج النظام. لذلك، هو ليس مجرد موظف عادي يتساوى في المسؤولية مع غيره من الموظفين. بل هو مدرسة، منظومة تربوية وأيديولوجية، هو ذهنية النظام واحتمالاته بكل تفاصيلها وتشعّباتها. هو فكرة النظام ممثّلةً بشخص.
سلامة، ناهيك بأنه يتحمل مسؤولية مباشرة في مسألة إيهام الناس بوضع الليرة، يتحمّل مسؤولية التغطية على التحويلات الخارجية التي قامت بها شخصيات مختلفة من المافيا والميليشيا الحاكمة، قبل الانتفاضة وبعدها. هو ارتضى أن ينتشل المصارف، وارتضى أن يحرّرها من إعلان إفلاسها عندما لم تسلّم الناس ودائعهم.
النظام بين موظَّفَيْن
غريب أمر هذا النظام كيف يتحوّل بين قضية وقضية، بين شخص وشخص، بين موظّف وموظّف. نراه يحاصر هنا، ويحرّر هناك. يستنفر هنا، ويستريح هناك. يطبّق القوانين ويحاسب في هذه الجزئية، ويعفي المسؤولية في تلك.
نظام نراه يتكثّف ويتجمّع ليعيق عمل القاضي بيطار، فتتمّ محاصرته بعشرات الاتهامات والشائعات وبعدد يقاربها من دعاوى كفّ اليد. دعاوى لم تنتهِ حتى اللحظة، ويبدو أنها لن تنتهي في القريب العاجل، ولو اتخذت أشكال مختلفة.
أمّا في الجهة المقابلة، فنرى النظام وقواه تتكثّف بالدرجة نفسها، لكن هذه المرة لحماية رياض سلامة بأشكال مختلفة.
نرى قوى النظام تتعامل بالخفة ذاتها، بالتهريج، بمزيد من التلاعب بالعقول وبالمعطيات والحقائق. فبعد أن تعيد قوى السلطة التجديد له، تعود وتنفض يدها منه، وتردّد بكل وقاحة إن سلامة عصيٌّ على التغيير، وإنّ أمر استبداله ليس بيد السلطة والقوى ذاتها التي جدّدت له. بل نراها تمعن في حمايته من خلال تعيين نائبه وزيرًا للمالية، ما يعني تسليمه الوضع المالي والنقدي للدولة.
ثنائيّة القبع والحماية
هذا الكلام مجرّد مقارنة بين رجلَيْن يتزامنان في النظام نفسه، أحدهما تتقاطع قوى السلطة على «قبعه» وإعاقة عمله، والآخر تتكاتف السلطة وقواها لحمايته، وإن بادّعاء رفضهم له.
لربّما هي عودة بنا إلى التمييز الثنائي، بين خير محض من ناحية وشر محض من ناحية ثانية. كأن نعود لمنطق شبه ديني في معركة الخير والشر الأبدية هذه. المعركة التي تنعكس بشخصيات ستكون يومًا ما تاريخية، تتناقل سيرها أجيالنا المستقبلية، إن كان لمستقبلها أي إمكانية ﻷن يكون. لكن، يطرح علينا التزامن هذا النوع من الأسئلة، بل يقحمنا في زاوية اعتدنا أن نتملّص منها في ثقافاتنا البديلة.
لقد احترسنا أن نمعن في رفض الايجابويّة لكثرة ما حملته من مردودٍ سيّئ علينا، في نظام لا ينتج إلا سلبيةً وفساداً وقلّة ثقة، في العمل، في الشخصيات، في هياكله ومؤسساته، لا بل في ثقافته. لقد أنتج النظام فسادًا لدرجة أنه جعلنا نرى في شخصية معيقة له، لا نقطة تكثيف مضادة يفترض أن تؤدّي إلى توتره هو كنظام حصرًا، بل تؤدي إلى توترنا نحن قبله.