تعليق انفجار المرفأ
جان قصير

5 سنوات على شعار

العدالة للضحايا والانتقام من النظام

4 آب 2025

الغرافيتي الجامع

ما زالت آثار الغرافيتي الأحمر والأسود ظاهرة على بعض جدران المدينة، يمكن لمحها تحت ملصقات إعلانيّة، أو على حائط معزول في زاروب. رُفع هذا الشعار ساعات قليلة بعد الانفجار، ليجسّد طاقة ثأريّة استثنائية. كما ولد الشعار بعد أشهر من انتفاضة شعبيّة، استثنائيّة أيضاً، سمحت بتشكيل وعي جماعي حول معنى جريمة المرفأ، كتجسيد لهشاشة الحياة تحت ثقل النظام اللبناني.

لكن خسر هذا الغرافيتي من هيبته، مع توالي الأزمات والخيبات، ليتحوّل من دعوة عامة لتحقيق العدالة إلى شاهد صامت على عجز مجتمع عن مقاضاة جلّاديه. بعد خمس سنوات على الجريمة، رُوّضت المشاعر، واستمرّ النظام. ساهم أركان النظام اللبناني أجمعين في ترويض تلك الطاقة الثأريّة التي تفجّرت في 8 آب في شوارع وسط بيروت. قاد حزب الله الانقلاب على التحقيق، عبر تهديد القاضي بيطار وزجّ قضيّة المرفأ ضمن صراع سياسي- طائفي مع خصومه. لكن لم يكن حزب الله وحده. فمعظم أقطاب النظام، من مرجعيات روحيّة وقادة أمنيّين ووزراء وقضاة، عملوا جاهدين على تفخيخ مسار التحقيق، واستخدموا شتّى الوسائل لحماية المرتكبين، وما زالوا.

لم يكن الشعار مجرّد صرخة وجع تطالب بثأر مُبهَم. كان تكثيفًا وجمعًا لمطلبَيّ الحقيقة والمحاسبة من جهة، ومشروع سياسي من جهة أخرى، ليشكّلوا معاً مفهوماً أشمل للعدالة. كما كان توحيدًا للجانب الخاصّ من القضيّة، المتعلّق بإنصاف الضحايا وذويهم، والجانب العام، المتمثّل بإنصاف مجتمع بأكمله.

غير أنّه كما في سواها من القضايا العامة في لبنان، مثل قضيّة مفقودي الحرب الأهليّة والاغتيالات السياسيّة والجرائم البيئية والجرائم ضدّ النساء وغيرها، تحوّلت قضيّة 4 آب تدريجيّاً من قضيّة عامّة إلى قضيّة خاصّة، تختزلها صورة عائلات الضحايا والشهداء أمام تمثال المغترب في الرابع من كلّ شهر. فالجريمة الفظيعة تلتها جرائم أخرى، من الإفقار المتعمّد للّبنانيين إلى الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، دمجت كلّ المظلوميات ضمن شلال دم جارف، بات يفرض إيقاع حياة كلّ جيل مرّ على هذا البلد، ويحدّد سقف الطموح في نيل العدالة.


من الحقيقة القضائيّة إلى الحقيقة السياسيّة

منذ الساعات الأولى للجريمة، كثر الحديث من قبل المسؤولين السياسيين والأمنيين عن ضرورة كشف الحقيقة ومحاسبة المرتكبين. لم يكن أحد وقتها قادراً على مواجهة قوّة فكرة «الحقيقة»، والتي كانت أوسع من مفهومها القضائي آنذاك. لكنّ انغماس مسار العدالة في صراع سياسي محتدم ومسار قضائي تقني ومتعثّر، كان كفيلاً بأن يكسر الزخم الشعبي والسياسي المطالب بالعدالة بمعناها الأشمل، وأن «يضيّع الشنكاش» حول معنى الحقيقة في قضيّة المرفأ. فبات مطلب «الحقيقة» يشبه شعار «محاربة الفساد»، أي تعليب القضايا من أجل تفريغها من أي معنى سياسي. 

وعليه، يصبح من الضروري العودة إلى تحديد الأسئلة السياسية في البحث عن الحقيقة في جريمة 4 آب:

  1. الإهمال الوظيفي: مَن سمح لسفينة روسوس أن تفرّغ شحنتها؟ ومَن خزّن قنبلة موقوتة على بعد أمتار من أحياء سكنيّة؟ ومَن ستّر على الموضوع؟ ومَن تقاعس على إخلاء الأحياء المجاورة فور اندلاع الحريق في المرفأ؟ من أرسل رجال ونساء فوج الإطفاء إلى حتفهم؟
  2. ملكيّة نترات الأمونيوم: من استحضر الباخرة وشحنة نترات الأمونيوم؟ ومن أخرج النترات من المرفأ ومن استخدمه على مدى 7 سنوات؟ ولأية غاية تمّ استخدامه؟
  3. تخريب/ تفجير/ انفجار؟: هل الانفجار ناجم عن خطأ فنّي أم عمل تخريبي أم اعتداء إرهابي؟ كيف بدأ الحريق في العنبر 12؟ وما هي هويّة المرتكبين؟

بسبب تخلّف المسؤولين اللبنانيين عن المثول أمام القاضي بيطار على مرّ السنوات الأخيرة، تركّز الحديث إعلاميّاً عن الإهمال الوظيفي وتستُّر المسؤولين السياسيين والأمنيين والعسكريين عن التعامل بمسؤولية مع شحنة نترات الأمونيوم. وبات السؤالان الآخران، حول ملكيّة الشحنة وكيفيّة التفجير، بمثابة «أنصاف الحقائق» تتناقلها الناس، دون أدلّة قاطعة، معظمها يفيد بأنّ النيترات كان ملك النظام السوري وحزب الله، وبأن إسرائيل فجّرته.

لا شكّ أنّ محاسبة مَن «كان يعلم»، ومَن سمح بالتخزين، ومَن تستّر عن الموضوع، ومَن لم يرتأِ إنذار سكان المناطق المجاورة بضرورة الإخلاء، هي أولويّات في مسار تبيان الحقيقة. ومحاسبة هؤلاء هي جزء أساسي من تحقيق العدالة للضحايا ولنا جميعاً. لكنّ تحديد المسؤولية بما يخصّ ملكيّة النترات وهويّة مستخدميه وكيفيّة انفجاره لا يقلّ أهميّة عن سؤال الإهمال الوظيفي، ولا يمكن أن يبقى رهنَ الروايات السياسيّة. ولا يمكن للعدالة أن تقتصر على بعض المسؤولين الصغار أو الكبار الذين تواطأُوا للتستّر على ارتكابات معلميهم. ولا يمكن أن يحيَّد أركان النظام اللبناني، بتبعيّاتهم الخارجيّة، من المسؤولية السياسيّة عمّا حصل. هذه هي الأسئلة التي تعيد الحقيقة من مفهومها القضائي الضيّق إلى مفهوم سياسي أوسع، يجعلها أداة في مسار العدالة.


العدالة لأيّ ضحايا؟

مع عودة المحقق العدلي طارق بيطار إلى عمله، ومع انفراج بعض العراقيل السياسيّة، بتنا أقرب من أي وقت مضى إلى صدور القرار الظني المنتظر. لكن ثمّة خشية من خيبة أمل، وهي أن يقتصر القرار الظني على تحديد المسؤوليات المحليّة من دون التطرّق إلى الملابسات السياسيّة الأكبر لهذه الجريمة. في لبنان، تمّ إصدار أحكام قضائية في عدد قليل من الجرائم السياسية، منها قضيّتا بشير الجميّل ورفيق الحريري. وفي الملفين، برزت أسماء المنفذين، وانقطع الحبل ليستر على هويّة الآمرين والمحرّضين. ومن هنا، يصبح التعويل على انتزاع العدالة ضمن مسار قضائي غير كافٍ. فالقضاء محدودٌ بإمكانيات التحقيق التقنيّة وتوفُّر الأدلّة، ولا يستطيع تفكيك البنى السياسيّة الأوسع التي تتسبّب بجرائم كهذه، والتي تسمح بتكرارها في المستقبل.

ثمّة معنى آخر للعدالة. معنى سياسي، يشخّص المسؤوليات بقراءة شاملة للأنظمة التي ترتّب حياتنا وموتنا في هذا البلد. المعنى السياسي للعدالة هو ما يعيد قضيّة المرفأ إلى إطارها العام، ويخرجها من إطارها الخاص، المتعلّق بإنصاف الضحايا، عبر الاعتراف بالجريمة والتعويض لهم فقط، وإنزال العقوبات بصغار المرتكبين الذين لم يستطيعوا طمس الأدلّة التي تدينهم. هناك ضحية أخرى، هي المجتمع، وإنصافها لن يأتي من قرار ظنّي، بل من تغيير سياسي جذري.


أبعد من القرار الظنّي

لا شكّ أن القرار الظني سيشكّل خضّة كبيرة للنظام السياسي اللبناني، حتى لو بقيت معظم الأسئلة دون إجابة. لكن ثمّة مسار سياسي يجب أن يستكمل مجراه ليرسّخ مفاعيل القرار الظني، وليحقق العدالة بمفهومها الأشمل. من هنا، تصبح العودة إلى شعار «العدالة للضحايا والانتقام من النظام» مدخلاً للدمج بين المسارين القضائي والسياسي، وبين القضيّة العامة والخاصة.

  • «العدالة للضحايا»، عبر إنصافهم سياسياً وقانونياً من خلال التحقيق القضائي، واعتراف الدولة اللبنانيّة بأنها قتلت شعبها عبر السماح باستباحة مرفأ بيروت لاعتبارات أمنيّة وسياسيّة، وتحديد المسؤوليات وإنزال أشدّ العقوبات بكلّ المرتكبين والمتواطئين الذين يثبت تورّطهم في الجريمة مهما علا شأنهم.
  • «الانتقام من النظام»، عبر الاعتراف بأن قراراً قضائياً لن يحمينا من تكرار هذه الجريمة، والاعتراف بأنّ تحديد مسؤوليّة بعض المرتكبين لن يكون كافياً لاقتلاع أسس النظام اللبناني، الذي قتلنا وما زال يقتلنا كلّ يوم، إمّا عمداً وإمّا عبر تسليمنا فريسة سهلة إلى أعداء الخارج.

وعليه، يصبح هذا الشعار بمثابة بوصلة لمعركة العدالة في هذا البلد، التي تنحرف كلّ حين، من خلال مساعٍ إصلاحيّة سطحيّة تظنّ أنها تستطيع ترويض النظام. يصبح هذا الشعار بمثابة جرس إنذار، يذكّر بأنّ غياب مشروع سياسي يحمل في صلب اهتمامه العدالة لجميع ضحايا النظام اللبناني، هو العقبة أمام عدالة سياسية. 

سقوط الميليشيا لن يكفي لتحقيق العدالة. فالمافيا أيضاً تقتل. والعدالة لضحايا انفجار المرفأ لا تكفي لعدم تكرار ما حصل. العدالة كانت وستبقى إسقاط هذا النظام.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً