ليس هذا مقالاً تحريضياً أو تهييجياً ضدّ «التطبيع». ليس فيه أيّ مفردة على شاكلة «خيانة» أو «عمالة». وبالطبع لن يتضمّن أي «تبرير» أو «ثناء»، للتعليق على ما سُميّ «مقابلةً» مع السفير الإسرائيلي في واشنطن، نشرتها منصّة this is beirut (هنا بيروت). فـ«المقابلة» دليل على وضع البلاد، وعلينا قراءتها كإشارةٍ على مناخ البلاد بعد الحرب.
كسر التابو المكسور
كان يُمكن ليحيئيل لايتر أن ينشر بنفسه الرسالة التي وجّهها للبنانيين على موقع سفارته في واشنطن أو حسابه الشخصي والرسمي على «إكس»، أو في أي وسيلة إعلامية إسرائيلية. لكنّ الهدية جاءته من «هنا بيروت»، المنصّة اللبنانية المموّلة من البنكرجي أنطون الصحناوي، لتعزّز روايته وانتشارها بين اللبنانيين. والتبرير كسر «التابو» من خلال إجراء «مقابلة حصرية» مع سفيرٍ إسرائيلي، وليس مجرّد أي سفير، إنّما السفير في واشنطن.
هو التابو انكسر، وبات الحديث عن كسره المستمرّ مدخلاً للترويج للسلام مع إسرائيل. انكسر مع تعيين السفير سيمون كرم ضمن وفد لبنان المفاوض في لجنة الميكانيزم. وانكسر مع الدعوات المتكرّرة للرئيس جوزاف عون حول التفاوض والسلام، وصولاً إلى سياق استخدامه عبارة «الديانات الإبراهيمية». وانكسر مع كلّ تصريح لخصوم حزب الله الذين باتوا يدافعون عن السلام كخيارٍ استراتيجي. هو انكسر أيضاً مع دعم وتمويل الصحناوي نفسه مبادرة أوبرا إسرائيلية من دون أي موقف جهة الدولة أو القضاء اللبناني.
وقد انكسر فعليّاً لمّا بات العالم بأكمله يدفع باتّجاه السلام من دون أي اعتراضٍ فعلي، حتّى من قبل حزب الله. أمّا التشاطر حول كسره، من طرف صحافيين مدعومين من قبل أقوى دول في العالم، فليس إلّا محاولة متقادمة لإضفاء بعض الأهمية على عملهم الصحفي.
هذا إذا كان صحفياً…
كسر المهنية الصحفية وليس التابو
ما نشرته «هنا بيروت» ليس مادّةً إعلاميةً أو مقابلةً صحفية. فتحت المنصّة الكاميرا والميكروفون للسفير الإسرائيلي، ثم منتجت المادّة وعرضتها لإطلاق افتتاح مكتب المنصّة في واشنطن. وهذه انطلاقة مميّزة لوسيلة إعلامية لم توجِّه لضيفها المزعوم أي سؤال ولم تحاججه بأي نقطة أو كذبة قالها. وعلى مدى 17 دقيقةً من العرض، قدّم لايتر رسالته من دون أي ردّة فعل صحفية.
ليست لدينا أيّ مطالب [مطامع] بأرض لبنان، نريد أن نعيش بسلام مع لبنان. مرّت هذه العبارة بسلاسة من دون أن تسأله المنصّة عن الأراضي التي تحتلّها إسرائيل في الجنوب، من نقاط «استراتيجية» وأخرى تحكمها بالنار، والثروات النهرية التي تريد السيطرة عليها منذ سنة 2000.
نحن نتشارك البحر، وهناك الكثير ممّا يمكننا القيام به في مجال استكشاف الغاز. لم تسأله المحاوِرة أيضاً عن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي حول مساعٍ إسرائيل لنسف اتّفاق الترسيم البحري مع لبنان، بهدف ضمّ مساحات إضافية كترجمة للانتصار في العدوان الأخير.
على لبنان أن يختار أن يكون في صفّ الحضارة، في صفّ الاعتدال، وصفّ التفاهم، وأن يعيش جنباً إلى جنب مع الغرب. لم يُسأل عن حضارة إبادة الشعب الفلسطيني في غزّة، وضمّ الضفّة الغربية، واجتياح الجنوب السوري، أو عن التحوّل الغربي في إدانة جرائم الحرب الإسرائيلية.
سيكون لبنان مصطفّاً مع الإسلام المعتدل [...] وضمان أن يعيش المسيحيون واليهود والمسلمون معاً بسلام وانسجام. فات السؤال هنا أيضاً عن ظروف القمع الديني والاجتماعي التي يعيشها الفلسطينيون، مسيحيون ومسلمون، في إسرائيل، بمنعهم من الوصول لبيت لحم والقدس وإحياء المراسم الدينية والتعدّيات على الأماكن المقدّسة. وفات أيضاً السؤال عن مفهوم «يهودية الأرض» في المنطقة، في كل المنطقة.
ربّما فهمت المنصة «كسر التابو» بصفته الانصياع الكامل للرواية الإسرائيلية، فيتحوّل الصحافي إلى مطبّل أمام ضيفه وسلطته، تمامًا كما كان الإعلام الممانع يطبّل لقياديه.
الإعلام كترويج للسلطة
مع كل هذه الأسئلة التي سقطت من المقابلة المزعومة، تحوّلت رسالة لايتر إلى إعلانٍ ترويجيٍّ مدعومٍ بالموسيقى التصويرية والمؤثّرات الخاصّة التي اختارتها المنصّة لملء فراغ الحوار المفقود. أمّا المُحاورة، فلا يُسمع صوتها إلّا في همهمات موافَقة في خلفية الفيديو، وفي تدخّلَين وحيدَين للتأكيد على كلام «الضيف» ودعمه بالعبارات المماثلة.
فعندما قدّم السفير كذبته حول رواية تبنّي إسرائيل للسلام، أعتقد أنّ معظم اللبنانيين يفهمون ذلك. لذا يقولون: حسناً، إذا كانت إسرائيل لن تزول من الوجود، فالأفضل أن نتقبّل بعضنا، وأن نعيش معاً. لِمَ لا؟ صحيح؟، ثم نسمع صوت المُحاورة مؤكّداً الكلام: لدينا تاريخ مشترك، ليردّد بعدها السفير العبارة الأخيرة ويدعم روايته. ثمّ خلال تبرير لايتر اعتداء إسرائيل على كلّ المنطقة: كانوا سيهاجمون دفعةً واحدةً، كانوا سيخرجون عبر الأنفاق، ويطلقون الصواريخ، ثم تطلق إيران صواريخ باليستية باتّجاه بلدنا ونحن دولة صغيرة جداً، يعود صوت المُحاورة ليدعم هذه الرواية بعبارة أفضل، جبهة موحّدة، ليردّد السفير بعدها العبارة الأخيرة.
ينتهي هذا الإعلان الترويجي مع موسيقى ملحمية تجسّد انتصارات إسرائيل بصور عن «نوستالجيا النكبة» واحتلال فلسطين، وصولاً في النهاية إلى الاتّفاقات الإبراهيمية كخاتمة سعيدة لكلّ الجرائم وكلّ القتل الذي ارتكبته إسرائيل على مدى 80 عاماً. أمّا الكلمة الأخيرة، فهي ليست إلّا لبنيامين نتنياهو، موجّهاً السلام بالعربية: السلام عليكم.
ليست شجاعة
ليس في هذه المقابلة المفترضة، أو في هذا الإعلان الترويجي، شجاعة في انفتاح مزعوم أو تقبّل للآخر أو كسر تابو. إسرائيل، بسفاراتها ومسؤوليها وأجهزتها الأمنية المختلفة، تسعى لنشر موادّ مماثلة، ومنذ عقود تريد انفتاحاً مماثلاً يسمح لها بالترويج لسرديّاتها، ويخرجها من عزلتها في المنطقة. وبعد خروجها من قمقم العزلة مع الاتّفاقات الإبراهيمية، لم يعد هذا «الانفتاح» عليها غايةً أو هدفاً، إنمّا ترجمةً لانتصاراتها بفعل القتل والإبادة والتهجير وفرض المناطق العازلة.
ومع هذه الانتصارات يأتي الابتزاز الإسرائيلي المباشر، ويقدّمه لايتر في الإعلان الترويجي نفسه. بعد السلام: نتمكّن من التوجّه إلى أصدقائنا السعوديين وأصدقائنا الإماراتيين ونقول لهم: انظروا، هذه ليست أموالاً تُهدَر، بل أموالاً ستساهم فعلاً في استقرار لبنان. أموال الخليج الموعودة للبنان بحال السلام تمكّنه أيضاً من الانضمام إلى اتّفاقات أبراهام.
ويقدّم لايتر ابتزازاً إسرائيلياً آخر على مستوى الأمن، إذا كان من الممكن نزع سلاح حزب الله من دون اللجوء إلى الخيار العسكري، فهذا جيد. ليحلّ علينا جميعاً البركات. لكن احتمالات حدوث ذلك ضئيلة. أي أنّ استخدام آلة القتل ستبقى مسلّطة على اللبنانيين، بالتزامن مع الدعوة الإسرائيلية التي يقدّمها لايتر: دعونا نصلّي معاً أن يصبح عام 2026 عام اتفاقيات أبراهام 2.0، حيث نعيش بسلام وانسجام.
كاسرو التابو باتوا يشبهون صحافيّي البلاط في الأنظمة العربية. مجرّد مروّجين للسلطة على حساب أي مهنية أو حتّى ادعاء صحفي.
«السلام». عنوان موقف رسمي لبناني، ومسار الرسائل الخارجية وضغوطها، وخطاب قيادات روحية ودينية. سيُفرض علينا، بالحرب والابتزاز والوعود، لكن تخيّلوا أن تصل رداءته السياسية والأخلاقية إلى حدّ أن تقدّمه لنا أيضاً «الأوبرا الإسرائيلية» في تلّ أبيب، بعمل موسيقي مموّل مجدّداً من أنطون الصحناوي.