عقد استوديو أشغال عامة، الأسبوع الماضي، حواراً مفتوحاً بعنوان «في تخيّل البلدات الحدودية». كان المتحدّث الأساسي في الجلسة منسّق تجمّع أهالي البلدات الحدودية طارق مزرعاني، المهجّر من بلدة حولا، بالإضافة إلى الزميل الصحافي مهدي كريّم الذي عرض عدداً من الملفّات المعيشية التي تابعها في هذه القرى. في ختام الجلسة رميتُ بضعة أفكار متقطّعة، ما زالت غير ناضجة حقّاً، أعيد ترتيبها هنا من باب المساهمة في هذا النقاش.
أودّ أن أشير أيضاً إلى الرسم الطريف الذي رافق الدعوة: شجرٌ وأرضٌ للزراعة وبيوت، بيوتنا– يقطّعها شريطٌ شائك وجدارٌ فاصل.
1)
المشكلة الأساس في البلد أنّ نقاش إعادة الإعمار ينطلق من السلاح والحَوكمة. لا من «الإعمار»، ولا من «الإعادة»، أي عودة المهجَّرين. النقاش الغائب هو أنّه لا يزال عشرات الآلاف من المواطنين اللبنانيّين يسكنون في «المؤقّت»، بعيداً عن بيوتهم وقراهم وحيواتهم، حتّى أنّ كثيرين منهم ما زالوا مهجَّرين في المدارس.
2)
انطلاقاً من ضغوط خارجية، وأيضاً من سياسات داخلية ضيّقة، ربط وزراء في الحكومة اللبنانية – وتصالحت الحكومة عموماً مع هذا الربط – ما بين ملفّ إعادة الإعمار وملفّ سلاح حزب الله. فصدرت مقولة «لا إعادة إعمار قبل تسليم السلاح»، وهي عبارة عن ابتزازٍ صريحٍ.
عند مواجهة أصحاب هذا الرأي، يدخلون في ابتزازٍ جديد، يبدو للوهلة الأولى أكثر تماسكاً: «أنّنا لو أعدنا إعمار القرى الحدودية، وما زال حزب الله يتمسّك بسلاحه، فهذا يعني أنّ إسرائيل لا تزال تملك ذريعةً لشنّ حربٍ موسّعة ثانية، وإعادة تدمير ما أُعيد إعماره. فلنختصر إذاً هذا الطريق». وهذا ابتزازٌ مضاعف.
3)
اقترحت الولايات المتّحدة مشروع «المنطقة الاقتصادية»، على لسان مبعوثها الدبلوماسي توم برّاك الذي هو، من باب المفارقات، مطوّر عقاري.
أجد في هذا المقترح مجرّد فتّيشة لفرطعة النقاشات الجدّية. المنطقة المزعومة (اقتصادية أو تجارية أو سياحية) هي مجرّد تسمية ملطّفة لـ«منطقة عازلة»، منطقة منزوعة السلاح. بعض التقارير أشارت إلى أنّ عمّال هذه المنطقة، سيكونون من مقاتلي حزب الله بعد أن يسلّم الحزب سلاحه. يبدو هذا الطرح كاريكاتورياً.
أكيد، في حسابات حزب الله، سؤال «المقاتلين» وسؤال القاعدة مرتبط جوهرياً بقراره حول سلاحه، ويشكّل ضغطاً على القيادة. ولكن أن يقول أحدهم أنّنا سنخلق في الجنوب منطقةً «صناعيةً» ليعملوا فيها، يُظهر جهل هذا الشخص بالجنوب، وبطبيعة «عمل» عناصر حزب الله المقاتلين، في حياتهم اليومية العادية للغاية.
4)
حتّى لو اتّفق الجميع على إنشاء هذه المنطقة، من نعيم قاسم إلى دونالد ترامب، لا مقوّمات فعليّة لها.
أشار مزرعاني في مداخلته إلى الحيوية الاقتصادية الحاضرة بين قرى الجنوب: تعتمد الضيعة الفلانية على مدارس الضيعة الأخرى، وهذه تعتمد على سوق تلك، وتلك وتلك تنتج الدخّان، الخ… على مرّ العقود، وبشكلٍ عضوي، ولعوامل حاضرة في طبيعة الجنوب ولعوامل أخرى فرضتها عليه السياسة (الداخلية، لناحية تعامل الدولة مع الأطراف، والخارجية لناحية الاحتلال والحروب) نظّم الجنوب اقتصاده بنفسه. صحيح، يمكن ألّا يكون اقتصاداً مثالياً، لكنّه في النهاية اقتصاد «عضوي»، غير مُسقَط، يُنتج ويصرّف.
الجنوب حالياً مكتفٍ ذاتياً بهذه الدرجة أو تلك. الحديث عن إنشاء «منطقة اقتصادية» يتطلّب، مقابل ما سوف تنتجه هذه المنطقة، سوقاً جديداً. إذاً ما هي السوق الأقرب لتصريف هذه البضاعة؟ ليست بيروت. المنطقة الاقتصادية تتطلّب سوقاً جديدةً، تقع، في هذه الحالة، على جنوب الجنوب. المقترح الأميركي يفترض تطبيعاً مُقبِلاً.
5)
يشبه هذا الحديث مقترح «ريفييرا غزّة» من حيث مفهوم «السلطة»: ثمّة مَن يعتقد أنّ له السلطة كي يفرض بالقوّة تبدّلات بمثل هذا الحجم، على قرانا ومدننا. كأنّ ما من سكّان هنا. كأنّنا نُرمى في البحر ويأتي المطوّر العقاري فيشقلب المكان على مزاجه ثم يعيد رمينا فيه، ومن المفترض أن نتأقلم. هذا اختصار الاستعمار في العمارة.
6)
بالحقيقة وضعنا أقرب إلى «المخطّط المصري» الذي قدّمته دولٌ عربية ردّاً على «ريفييرا غزّة». [يمكن مراجعة نقده المفصّل هنا]. ومن عناوينه العريضة:
- إنشاء مزارع وبساتين، أي منطقة «إنتاج زراعي»، هي في الحقيقة نفس المنطقة العازلة التي طالب بها نتنياهو.
- تنظيم مُدني مُسقَط من الفضاء ومستوحى من دُبي لا علاقة له بتاريخ غزّة أو بعلاقاتها الاجتماعية.
- توزيع «خبيث» للموارد: الخطّة تزيد عدد محطّات تحلية المياه والكهرباء مثلاً، لكنّها تنقل مكانها إلى حدود القطاع بشكل يضعها كلّياً تحت السيطرة الإسرائيلية، ويسهّل ابتزاز الفلسطينيين بها عوض تمليكهم مواردهم.
إذاً السؤال ليس ما الذي سنُعيد إعماره. السؤال: كيف سنُعيد إعماره؟
7)
كيف يرى المستعمر منطقتنا؟
الواضح أنّه يستخدم التنظيم المُدني كسلاحٍ سياسيّ.
السؤال إذاً، لماذا لا نفعل نحن ذلك؟ لماذا يتمّ تسييس التنظيم المدني بشكلٍ سلبي فقط (إعادة إعمار وسط بيروت مثالاً)، أو بشكلٍ عفوي فقط (المبادرات الأهلية في الأحياء)؟ لماذا لا تسيّس الدولة رسمياً التنظيم المدني بوجه عدوٍّ يسيّس تنظيمه المدني بوجهنا؟
ماذا أقصد بـ«عدو يُسيّس تنظيمه المدني»؟ هنا ثلاث حالات على سبيل المثال لا الحصر:
- «الصندوق القومي اليهودي»: صندوق تأسّس مطلع القرن العشرين بهدف شراء الأراضي اليهودية، وركّز جهوده بعد النكبة سنة 1948 على زرع الأشجار فوق أنقاض القرى الفلسطينية المهجّرة. جزء يسير ممّا يُعتقد أنّه غابات في إسرائيل اليوم، هو بالحقيقة غطاء لمجازر النكبة.
- مستوطنات غلاف غزة: تعتمد السلطات الإسرائيلية معاملةً خاصّة لهذه المستوطنات، كونها تملك وظيفةً مُضافةً عن «الاستيطان العادي»: محاصَرة قطاع غزة وخنقه. بالإضافة إلى (بالمعنى الرمزي) خلق شعور يوحي بأنّ «كل شيء طبيعي هنا». كمن كانوا يزرعون الخسّ بجوار معسكر أوشفيتز. ويحظى مستوطنو الغلاف بإعفاءات ضريبية محدّدة، ويتلقّون دعماً على شاكلة تخفيض أسعار الأراضي والإيجارات؛ لأنّ الحكومة الإسرائيلية تُريد لناسها أن يكرّسوا حضورهم في هذه البقعة بالذات. وبعد كل جولة من حروب غزّة، كانت تُعزَّز ميزانية هذه المستوطنات. والمنطق نفسه ينسحب على مستوطنات شمال فلسطين، مقابل الحدود اللبنانية. الطريف أن مستوطني الغلاف كانوا يشكون من إهمالٍ تعرّضوا له بعد انتخابات 2022، وبالفعل كانت المخصّصات المالية المرتقبة لهم في سنتَيْ 2023 - 2024 منخفضة نسبياً. ثم ارتفعت بشكلٍ خرافيّ بعد طوفان الأقصى.
- الغرفة الآمنة: هذا مثال مصغّر للعمارة التي تأخذ الطوارئ بالاعتبار. صُمّمت منازل كيبوتسات الغلاف بشكلٍ يضمّ غرفةً بلا نوافذ، بجدران سميكة، وباب محصّن يُقفَل من الداخل فقط. عملياً، وما حصل بالفعل يوم السابع من أكتوبر، اختبأ عدد من المستوطنين في هذه الغرف، فلم يتمكّن مقاتلو القسّام من أسرهم، وبقوا فيها إلى أن جاءت النجدة.
يسخّر العقل الإسرائيلي إذاً العمارة والتنظيم المدني بخدمة مشروعه الاستيطاني، التوسّعي، من دون أن تفكّر أيٌّ من الدول المجاورة بهذه الأدوات كأدوات حرب أو أدوات سياسية – إلّا بما يتعلّق بتبئيس شعوبها.
8)
ثم ماذا أقصد بـ«لماذا لا تسيّس الحكومةُ اللبنانية التنظيم المدني»؟
قدّر البنك الدولي خسائر الحرب الإسرائيلية على لبنان بـ14 مليار دولار. نحو 6.8 مليارات دولار أضرار مادية، ونحو 7.2 مليارات دولار خسائر اقتصادية. وقُدّرت كلفة إعادة الإعمار بـ10 مليار دولار تقريباً. واقترح البنك الدولي تقديم 250 مليون دولار منها لإصلاح بعض البنى التحتية. هذا هو المصدر الوحيد الملموس لتمويل خارجي حتّى الآن، وعندما حان موعد نقاشه في جلسة 29 أيلول الحكومية، فُقد نصاب الجلسة، فعُلّق العمل به.
أمام هذا الواقع، ما الرقم الذي خصّصته الحكومة في موازنتها لإعادة الإعمار؟
صفر.
الأنكى من ذلك، اكتفى وزير المالية، ياسين جابر، بالإشارة إلى وجود مبالغ جيّدة في احتياطي الموازنة، يمكن، يمكن استخدامها، لإعادة الإعمار. «مبالغ جيدة» = 70 مليون دولار، أي 0.7٪ من المبلغ المطلوب. وهذا بالرغم من توفّر فوائض مالية ضخمة لدى الخزينة، تتجاوز قيمتها 8 مليار دولار، في حساب الحكومة اللبنانية في المصرف المركزي. هذه أموال للدولة اللبنانية يمكنها أن تستخدمها في ما تشاء، من الجنوب إلى الشمال، ومن السياحة إلى الكهرباء إلى إعادة الإعمار. الاعتبارات كثيرة إذاً، مفهوم. لا سيّما «الطائفي/ المناطقي» منها. لا أقول سنُعيد الإعمار بهذه المليارات، ولكن الحد الأدنى. أمّا أن يُعرَض مبلغ 0.7٪ فقط؟
الجواب السهل هنا هو أنّ الحكومة تنتظر المنح ولا تريد أن تنفق من ميزانيّتها. ولكن ماذا يعني ذلك؟ لا يهمّ المنحى العمليّ التقني النقدي الخ… السؤال هنا هو ما الرسالة التي تبعثها الحكومة عندما تخصّص صفر دولار لإعادة الإعمار في أوّل موازنة صادرة ما بعد الحرب؟ ثم اقتُرح قانون لإعفاء الأقضية المتضرّرة من الرسوم والضرائب، وعند نقاشه، تمّ تعديل مشروع القانون وحُذفت منه بعض الأقضية المتضرّرة (مثل النبطية)، وأُضيفَت أقضية غير متضرّرة، تحت عنوان صون النموذج الطائفي.
إذاً، بهذه العقلية تتعامل الحكومة اللبنانية، بكل الأحزاب التي فيها، مع منطقةٍ تتعامل معها إسرائيل بعقلية التهجير القسري. منطقة تعرّضت لمحوٍ كامل بعد الحرب، ومنطقة أوسع ما زالت تتعرّض لاعتداءات يومية.
9)
كل ما ذُكر إلى الآن، في وضعٍ طبيعي، لا يحتاج إلى لجان أو مقالات أو مطالبات. هذا هو الحدّ الأدنى من الأمور.
وإنّ المطالبة بالحدّ الأقصى، يجعلك تشعر بخجلٍ ما أمام المهجّرين الذين ينتظرون فقط أن يعودوا إلى شجرة الغردينيا أمام بيتهم. لا يريدون أكثر من ذلك، أن يكنسوا الغبار عن قبر جدّتهم في جبّانة الضيعة.
10)
إذاً، في النهاية، ما هو الحدّ الأقصى؟
كل الحديث الحالي، الرديء، عن إعادة الإعمار، يتجاهل معطيَين أساسيَّين، أكان من هذا الجانب أو ذاك.
- أنّ إسرائيل، حالياً على الأقل، موجودة. وأطماعها التوسّعية موجودة. ومن السذاجة الاعتقاد أنّ ما ستنتهي إليه هذه الجولة هو سلام دائم. حتى توم برّاك نفسه يرى أنّ هذا مجرّد وهم.
- بصرف النظر عن حزب الله بالتحديد، وبصرف النظر عن نقاش السلاح الحالي، سيكون هناك، في هذه البقعة الجغرافية المسمّاة جنوب لبنان، مواطنون يعيشون، ومواطنون يزرعون أرضهم، ومواطنون يحملون السلاح لحماية قراهم إن لزم الأمر، أيّاً يكن العنوان الذي ينضوون تحته. كيف إذاً نبني قريةً تحمي هؤلاء؟
يُفترض أن ينطلق التفكير بإعادة الإعمار من هنا إذاً. لا أملك جواباً. أرمي هذه التساؤلات مع إقرارٍ بتعقيد المعطيات. فلا يمكن أن نعيد إنشاء مبنى مكان المبنى المقصوف، بشكلٍ «أجمل ممّا كان»، ونكتفي بهذا الحد. لا يمكن أيضاً أن يلجأ مسعفون إلى شققٍ رديئة مُستأجرة. لا يمكن أن تكون منشآت الإغاثة بهذا القدر من العشوائية. لا يمكن أن تعرقل الطرقات عملية نزوحٍ طارئة. ولا يُفترض أن تنقطع المياه عن مواطنٍ رفض النزوح. ولا يمكن، بالنهاية، أن يضطرّ الجنوبيّون إلى شقّ طرقات أو تعديل منشآت مدنية محدّدة بأيديهم خلال الحرب، تحت رصد المسيّرات الإسرائيلية.
كل هذه مسلّمات يُفترض أن تشملها، وبشكلٍ مُسبَق، قرانا التي سوف يُعاد إعمارها. ولكن مجدّداً، هذا يبدو حدّاً أقصى. هكذا نتخيّل إعادة الإعمار، كما كان عنوان الحوار. أما واقعياً، فلنبدأ بإعادة المهجَّرين إلى قراهم.