الصوت الواضح بالخلفية.
لكن الصورة من ضباب. أحاول عصر الذاكرة. بعض المشاهد على الانترنت تُعيد إنعاشها: ستوري لصديقة على البوّابة في طفولتها؛ الصورة الشهيرة لإدوارد سعيد بيَده حجرٍ وإلى جانبه فوّاز طرابلسي؛ صورة وزيرٍ أبله يرمي حجراً أمام الكاميرا؛ مشاهد عشوائية من الجنوب يملأها الدخان. السهل، والشجر، ومَن يعرف الجنوب سيرسم المشهد نفسه بِلا وصفٍ أبعَد. تعود الصورة. كنّا هناك في رحلةٍ عائلية. أسمَعُ والدي: ارمِ الحجر.
- ع شو بدّي ارميه؟
- ارميه لهونيك.
- ع مين هونيك؟
- ع الإسرائيليّي.
إذاً أَرمي الحجر.
بطبيعة الحال، لم تتجاوز حجارَتي الشبك. كانت يداي قصيرتَين، قامتي هزيلة، ولا تزال. إن صدَقَت ذاكرتي، يكون أخي الأكبر قد نجح بإيصال حجارته إلى المقلب الآخر. قامته أضخم، ولا تزال. البوّابة مفتوحة. مخلوعة. لا أذكر. «ايه بس بلا ما نقرّب أكتر». «لك قرّب ها كل الناس عم تقرّب». أذكر يافطةً حديديّة كُتبَ عليها بخطّ اليَد: «بوّابة فاطمة». هيَ آخر نقطة في الجنوب المُحتَل/المُحرَّر للتَوّ. إنّنا في العام 2000. إنّها الزيارة إيّاها التي نظّمها جميع أهالي المنطقة لأبنائهم. وكان يمكن أن يقصدوا المناطق المُحتلّة/المُحرّرة للتَوّ، بمفردهم. أخفّ لبَكة. لكن لا، كانت الزيارة لأجلِنا. كانوا يريدوننا أن نرى، أن نشهَد. أذكر جيّداً كمّية الأطفال التي كانت هناك. كأنّه عيد الفطر.
أذكر أيضاً أنّ والدي كان برفقةِ صديق، أحضَر عائلتَه هو الآخر، وأخذ يحدّد الاتّجاهات. لا أذكر هذا الصديق. لكن أذكر أنّه قال، بعدما ترجّلنا في منطقةٍ أخرى: «هي كلها تحرّرت. كانوا قاعدين هون». لم أفهم شيئاً لكن أذكر أنّه عندما قال «هون»، ودلَّ بذاك الاتّجاه، كنتُ أرى ضيعةً. بهذا القدر من البساطة. ضيعة عادية من ضيع الجنوب. التُربةُ إيّاها، والعشب إيّاه، والحجرُ إيّاه والطرقات نصف المُعبّدة إيّاها، والعواميد الصفراء إيّاها، ورائحة الربيع وما فيها من زهرٍ وزبلِ ماعز.
أذكر أيضاً أنّ عمّي المغترب، حتّى هوَ، أتى إلى البلاد بعد فترةٍ وجيزة من الرحلة المذكورة. حتّى أنّه أحضر عائلته، الأجنبية بكاملها، ثم زاروا هذه الأمكنة، ثم عادوا إلى بلدهم. لا أدري إن كانوا يذكرون هذه الزيارة، إن كانت تعنيهم، لكن بحوزتي صورةٌ لنا، الأقرباء الأربعة، مع شعرنا المقصوص على الطاسّة، في باحة مكانٍ أخبرونا أنّ اسمه «معتقل الخيام». وكنت أبحث عن «الخيام» ولم أجد ولو خيمة. لكنّي وجدتُ المُعتَقل. الأشرطة الشائكة. الأبواب الحديدية. الأغلال المخلوعة. وربّما صدى التكبير والعناق الأوّل.
أذكر أنّنا صرنا نرى في طريقنا إلى الضيعة، عند المفترقات الكبرى، آلياتٍ عسكريةً مُدَمَّرة، مرصوفة بشكلٍ استعراضي. على معظَم هذه الآليات، رُسِمَت نفس النجمة. هذه ذكرى سهلة، فالآليات الصَدِئة ما زالت هنا؛ بل زادت بعد أعوامٍ قليلة؛ بل إنّها اليوم تزداد إلى ما لا نهاية، بمعيّة مثلّثٍ أحمر. على مفترقاتٍ أخرى، نَصبوا ما يشبه قساطل الماء، 8 منها في كل مجموعة، موجَّهة إلى السماء، «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم…»، وأذكر أنّنا عند هذا الحدّ صرنا نذهب إلى ضيعة بابا، وضيعة ماما. قبل ذلك، لم نكن نذهب إلّا إلى ضيعة بابا. ضيعة ماما كانت «بعد القاطع»، حسبما كانوا يقولون.
أحياناً تَكلّموا عن شريطٍ أزرق. أنا لم أرَ في حياتي هذا الشريط الأزرق. أحياناً قالوا أنّها قرب «القرى الحدودية». هذه أذكرها لأنّهم ما زالوا يقولونها. وقد باتت كلمة «الحدودية» تتكرّر وتتكاثر مع الوقت، كأنَّها قدَر، وكأنّ عالمنا ينتهي هنا، عند الحدود. وحدَها قصص جدّي جعلتني أفهم أنَّ هناك، خلف الحدود، عالماً آخراً كان في يومٍ من الأيّام عالمَنا نفسه. (قصصٌ أخرى سوف تجعلني أؤمن أنّ ذاك العالم الآخر سوف يعود، في يومٍ من الأيّام، عالمَنا نفسه).
«كنّا نروح لهونيك مَشي»، مثلاً. ومنذ مدّة، أخبرتني والدتي أنّها كانت تسمع، عَن جدَّتها، أنّهم كانوا يذهبون إلى عملهم صباحاً في قضاءِ صفد، مثلاً، «بقِت التَريق مفتوحة»، ثم يعودون إلى منازلهم عند مغيب الشمس. هذه ذكرى لا أعرفها لكنّني الآن أمتلكها، بالوراثة والقصص.
أطفال-التسعينات-بعد-القاطع يعرفون، مثلاً، «أبو لحسة». قبل عامَين أو ثلاثة، أخبرني جدّي أنّ أبو لحسة أعطانا عمره، قبل عامَين أو ثلاثة. أبو لحسة، لا أحد يعرف اسمه الحقيقي. كان يمرّ علينا كلّ يوم، بعد موعد الغداء. نعرفه من صوت الدرّاجة النارية— موتسيكل «جَمَل»، قماشٌ مزخرف يغطّي الكرسي، وصندوقٌ فضّي مثبَّتٌ بإحكام على آخرها. كنّا نخرج من البيت تلقائياً (15 ولداً أو أكثر)، ونحاوط الدرّاجة. تلحقنا أمّهاتنا تلقائياً، ويخترنَ مندوبةً منهنّ لتنظيم الدَّوْر والمُحاسبة. يفتح أبو لحسة صندوقه، وتظهر 8 أو 10 علب بوظة، بجانبها كيسان من البسكويت، أوّلهما لحبّة الـ250 والثاني للـ500. يضع لكل طفل بوظة بمقدار اللحسة، ويناولنا إيّاها. كل النكهات تتشابه من حيث الطعم، لكنّ الألوان تختلف. تعرف مثلاً أنّها بوظة على فريز فقط لأن لونها زهري، ولك أن تُسقط عليها طعمة الفريز. كان تمريناً لطيفاً لمخيّلاتٍ طَريّة. كنّا نأكل ألواناً، وربّما لهذا السبب أسعدَنا أبو لحسة إلى هذا الحدّ.
بعد البوظة نلعب. نشرد في الحقل. «بس ما تبعدوا». وبنبرةٍ أكثر حزماً: «اذا طلع شي قدّامكن تدقّوش فيه»، وبنبرةٍ فائقة الحزم: «تقطعوش الحيط». لكنّنا كنّا نقطع الحيط. أمّا الـ«شي» الذي ما كان علينا أن نلمسه في حال عثورنا عليه، فقد يأخذ أشكالاً عديدة. أوّلها: شكل قذيفة؛ آخرها: شكل دمية.
أذكر أن زارَنا رجلٌ مرّة وحكى شيئاً مع أهلي ونهرتني أمّي بعد هذا الكلام بما معناه ألّا ألمس شيئاً في الحقل البعيد. «عم يخبّوهن جوّا الألعاب. اسّا فجّرنا وحدة». ربّما كانت هذه الذكرى من الـ2000، ربّما من الـ2006، اختلطت علَيّ التواريخ، لكنّ اللعبة هي هي. أذكر أنّنا في يومٍ من الأيّام وجدنا هذا الـ«شي»، وكان بهيئة قذيفةٍ من دونِ تمويهٍ يُذكَر. كان الصدأ قد أكلها، لكنّ الله أعلم… كنّا عرّ ولاد وكانت معنا طابَتُنا، وفكّرنا أن نرميها من بعيد على الـ«شي». لا أذكر لماذا عدلنا عن الفكرة و«بلّغنا فوراً» هاهاهاه. كانت الدعاية تقول: لا تقترب، لا تلمس، بلّغ فوراً.
السؤال البديهي الذي يعقب هذه الذكرى: «كيف يميّز الأولاد أشكال القذيفة؟». ببساطة لأنّها كانت زينة الضيعة. أعني، بعد أن تنفجر. كانوا يجمعون ما بقيَ منها، الذيل (أو الفراش، أو الشفرات)، ويعرضونه في منازلهم. ويتباهى بينهم مَن يمتلك القطعة الأكبر. أذكر أن كان عندنا في منزل جدّي، اثنتَين منهما، على مراية غرفة القعود، واحدة إلى اليمين واحدة إلى اليسار، وقد وضعوا فيها أقلاماً ومشطَ شعرٍ وسنبلة يابسة وأشياء أخرى. كان مكتوباً عليها أرقامٌ تعلّمتُها للتَوّ، وأحرف من لغةٍ لم أتعلّمها يوماً.
أذكر أيضاً مبنىً مهجوراً في آخر الحقل حيث كنّا نلعب. بعد بيت عمتو إفراج. «هيدا بقى مركز لليونيفل». لم نكن نعرف من اليونيفل سوى أنّ لهم مراكزَ، بعضها مهجور، ولهم سيّارات بيضاء كبيرة تسير ببطء. نجتازها، ونطلّ من الشبابيك لنلقي عليهم التحيّة، وكانوا يردّون التحيّة. كانت كل مجموعة في كل سيّارة بيضاء كبيرة تختلف عن الأخرى. أحياناً كنّا نقول «هيدا يونيفل ع حليب»، أحياناً نقول «هيدا يونيفل ع شوكولا». اليوم ما عدتُ أُردّد هذه النكتة، ولا عدتُ أُلقي عليهم التحية.
إذاً أذكر مبنىً مهجوراً في آخر الحقل حيث كنّا نلعب. بعد بيت عمتو إفراج. كنّا نلعب فيه الغمّيضة. سملحتك، أو سلمحتك. لا أعرف. وكان مناسباً للعب الغمّيضة بالتحديد لأنّه ليس كالمباني العادية. أقصد أنَّ به فتحات غريبة وطبقات غير متساوية وأدراجاً ومنزلقات ونجده محصّناً من جهة ثم مفتوحاً على الحقل من جهةٍ أخرى. كنّا نتسابق كي نبلغ سطحه. من فوق، كنّا نرى «تلّة برعشيت». أذكر أنّ «الكبار» كانوا يأخذوننا إليها أحياناً. كأنّه واجب. «التلّة» على جبال الجنوب ليست من صنع الطبيعة. من على التلّة، كنّا نرى الضيعة كلّها، بيتاً بيتاً، حتّى المركز المهجور الذي كنّا نلعب فيه الغمّيضة. «شفت يا ماما؟ هون كانت توقف الدبّابة لتقصفنا».
أذكر أخبار أمّي التي لا أعلم إن كانت تذكر أنّها أخبرتني إيّاها أثناء شرودها في معرضِ حديثٍ آخر. أذكر لمّا أخبرتني أنّهم زَمطوا، «كوّمنا علي حسين ع التراكتور ومشي فينا عالعبّاسية، عالمدرسة. ومن هونيك نزّلنا عمّي ع بيروت. تاني يوم قالولنا قصفوا مدرسة العبّاسية». أذكر لمّا أخبرتني أنّهم ناموا مع البقرات، لأن أدفى، «بالبيت عند سلطانة، رجعوا قَصَفوه بيت سلطانة بالـ2006». كان بيتاً طينياً أذكره جيّداً، تَبينُ عليه كفوف اليد التي لبخت الطين المخلوط بالقشّ. أذكر أن «كنت حبلى فيك يا ماما لمّا عملوا مجزرة قانا. حضرتها عالمنار وبلّشت ابكي واجا بيّك زعبني قَلّي شو قاعدة تحضري هلأ انت وحبلى»— يجب التحديد: كانت تقصد مجزرة قانا الأولى. تعرفون، توجد مجزرة قانا التانية. كانت أمّي بشهرها الثامن. شاهدتُ أوّل مجزرة بحياتي لمّا كان عمري ناقص شهر.
مجزرة قانا التانية شاهدتُها لمّا صار عمري 10. أيضاً على المنار. كانوا قد لجأوا إلى مدرسةٍ لليونيفل، اليونيفل نفسه الذي كنّا نلعب الغمّيضة في مركزه المهجور الذي من على سطحه كنّا نرى التلّة حيث كانت تقف الدبّابة كي تقصف الضيعة التي منها زمطت أمّي قبل 18 عاماً من مشاهدتها مجزرة قانا، الأولى.
أذكر أنّ أمّي دَعَت عليهم، ودعوات الأمّ مُستجابة. «الله لا يوفّقن». لاحظوا، أمّي لطيفة: «الله لا يوفّقن» فقط. إذا عَوّصت بتقول: «الله ينتقم منن». عمَّتُها، مثلاً، عمتو إفراج، كانت تدعو عليهم بكلماتٍ من عيارٍ آخر، لا داعي لذكرها الآن. لكن أذكر (وما زلتُ أسمع وأفرح عند سماع) الإفراط بالكَسر في مخارج حروفها: «الله يِهِدِّك يسرائيل، ويِنْصِر عِدّوِيِنِك»، وكانت هي، المُتكلّمة، من عَدوّين إسرائيل.
أذكر (وما زلتُ أرى وأفرح عند رؤية) منديلها الأبيَض. منديلٌ أبيض رقيق يغطّي شعرها من دون أن يلفّ وجهها بالكامل. وقد تهرب منه الخصلة الأمامية. أذكر كيف كانت خصلتها سوداء وكيف اقتربت إلى الشَيب. أذكر خصلة جدّتي أيضاً، كانت تضع منديلاً مماثلاً، وتنزعه لتلوّن شعرها بالحنّاء. أذكر كيف كنت أنزعج من رائحته، كيف كان شعرها ينقلب من الأبيَض إلى البرتقالي، كيف كانت أصابع يدها تبقى برتقالية لأيّام بعد صبغ شعرها، كيف كانت تزيّن أيضاً أصابع قدمَيها بالحنّاء.
- شو عم تعملي يا تيتا؟
- عم حَنّي شعري يا تيتا، تاع حَنّيلك شعرك.
- لأ بدّيش.
- ليش بدّكش؟ بيصير لونه متل الليمون.
شجرة الليمون أذكرها. الشجرة التي زرعها جدّي في أرضٍ لم تكن قاحلة عند مجيئه إليها. شجرة الليمون هذه ما زالت تثمر اليوم إلى ما لا نهاية. يأكل منها الجميع. والغاردينيا التي قال إنّهم أهدوه إيّاها يومَ ميلادي، ما زالت تُزهر بعد رحيله. وقد ورثت عنه هذه العادة: كان يجلس بين أغصان الغاردينيا على كرسيٍّ أزرقَ صغير صنعه بيدَيه، ثم ينتف الأوراق التي بدأت تَصفَرّ، فتعود السَّجرة خضراء. «السجرة»، كان يقول. كما أذكر أنّه كان يسكب كلّ صباح قدحَ زيتٍ من زيتونه، ويشربه كرعةً واحدة. والأفضل على الريق. و«الحمدالله» عندما يطرق القدح بالطاولة التي أعتقد أنّه، أيضاً، صنعها بيدَيه. أذكر أنّه حافَظ على صحّته حتّى يومه الأخير. كنّا نستيقظ كلّ صباحٍ على رنين معوله إذ ينطح الأرض. «روح عيّط لجدّك يجي يشرب فنجان القهوة». أذكر فنجان القهوة. وأذكر أنَّ أشجاراً كان قد زرعها، قُطِعَت. وأذكر أنّه مات بعد هذه الحادثة بأيّام.
جدّي الآخر ما زال يقطف زيتونه. قبل أسابيع أرسلوا لنا فيديو على غروب العائلة، له، تحت الشجرة. جَدّي تَحتَ الشَّجَرة. كان فَرِحاً. كان يضحك. كان يلوّح الغصن بيده ويغنّي.
على دلعونا على دلعونا — بلّشنا اليوم حواش الزيتونا
يا زيتونتنا انت المبروكة — ماطيَب زيتاتك على المفروكة
تسلم إيدَين الّي رجّعوكي — والي حاموكِ من الصهيونا
في هذا الموسم، لم أذهب إلى الجنوب. لكن أذكر المواسم السابقة التي شاركنا (نحن عرّ الولاد الـ15 أو أكثر) بحواشها. أذكر خالتي التي كانت تقف أعلى الشجرة وتغنّي بدورها. أنيسة هذه العادة، الغناء عند مرش الزيتون. كنّا كل حين نسمع صوتها، «بين العصر والمغرب…»، ويغيب الصوت حسب الريح، ويعود، «لا تضربني لا تضرب…»، ويغيب، ونُردّد (نحن عرّ الولاد الـ15 أو أكثر)، «كسّرت الخيزرانة - كسّرت الخيزرانة»، ونضحك، ويعود، «اجت ام كامل اعملولها هااااي»، ونبحث عن ام كامل لنعملّها هااااي، وظلّت خالَتي تُكرّر، «اجت ام كامل»، «اجت ام كامل»، حتّى صرنا نميّز صوتها بمفردنا. هذا الصوت الواضح بالخلفية. هذه الونّة الواحدة المتواصلة التي ما انقطعت، منذ أن كانت خالَتي فوق تغنّي على الشَّجَرة، حتّى هذه اللحظة، وأنا أكتب هذا النَّص، وأتذكّر أشياءً كثيرة، من بينها الأحجار التي رَميناها على بوّابة فاطمة.