1
لم يسمع الناسَ يصرخون من حوله لفرط ما كان سُعاله عالياً. كان يرى ضباباً ويردّد: هذا الجحيم، أهذا الجحيم؟ والكلّ يجيبه بصراحة: نعم هذا هو الجحيم. لكنّه لم يسمع وظلّ يردّد أهذا هو الجحيم يا ناس؟ ما كان يبصر الكثير. ولا كان يشعر. جسمه تخدّر من شدّة الوجع. يده أمامه على الأرض. يده الأخرى رفعها وفرك بها عينيه. كانت لا تزال شظايا الزجاج مغروسة بكفّه. أحسّ فجأة أن عينَيه تحرقانه وبدأ يرى كلّ شيءٍ بالأحمر.
2
الصورة الأولى التي رآها عن العدوان الموسّع كانت لقبر جدّته، في قريةٍ جنوبية حدودية. هكذا فهم أنّ الإسرائيليين قد «بدأوا». صوتٌ غاضبٌ على مجموعة العائلة كان يردّد: شوفوا يا جماعة هيدا قبر إمكن. هيدا قبر ستّكن يا شباب ويا صبايا. هيك فاقت اليوم. ما زال عالقاً عند هذه الصورة حتّى الآن. لم يكترث من بعدها لوقائع الحرب. تعامل مع كلّ شيء باستلشاءٍ وأعصابٍ باردة، إلّا هذه الصورة ما زال يلوكها في ذهنه: كيف أنّ الشظايا لا تزال هناك على القبر حتّى هذه اللحظة، وكيف أنّ زنّانةً تدور فوق رأسه في بيروت وهو يكتب هذه القصّة، وكيف أنّه من المحتمل أن تكون هذه الزنّانة هي نفسها الزنّانة التي حامت فوق رأسهم يوم دفنوا الجدّة في بلدتها التي تُقصَف الآن وهو يلوم نفسه كيف أنّه يكتب من دون أن يستطيع أن يرفع الشظايا عن قبرها.
شعر أنّها عالقة تحت الأنقاض مرّتين.
3
يومَ أمس اشترى زيتوناً من السوق لأوّل مرّة. لم يكن يعرف أنّ هذا الأمر ممكن. كان يعتقد أنّ الزيتون موجودٌ وحسب. أنّه لا يُباع بالأسواق ولا يُشترى. تقطف زيتونَك وتصنع منه زيتاً وتأتي بالغالون الأوّل إلى جدّك فيسكب منه قدحاً ويشرب فيما العائلة كلّها تنتظر أن يهزّ رأسه موافقاً. بلى، كثيرون يقولون عن زيتهم عَكِراً، إذا قارنوه بزيتهم نفسه: الموسم الماضي كان أطيب، مثلاً. لكنّه الآن في السوق. رحمة الله على جدّه وعلى من زرع الزيتون وعلى مَن كان ينوي أن يقطفه. توجّه إلى البائعة بوجهٍ بلا ملامح وقال «بدي زيتون». هكذا وحسب، قال «بدي زيتون» وكره نفسه بلا سبب.
- قديش بدك؟
- بعرفش. انه هيك بدّي زيتون. 100 غرام؟
- 100 غرام؟
- ايه 100 غرام. لأ؟
- انت قد ما بدك. زيتون شو؟
- أخضر
- هيدا الأخضر أو هيداك؟
- شو الفرق؟
- هيدا مملّح. هيدا بزيت. هيدا بمَي.
- بزيت. شكراً… بتبيعوا زيت؟ أو لأ خلص شكراً.
4
منذ اغتيل نصرالله وذهنه يلوك— إلى جانب صورة قبر جدّته— ذهنه يلوك الجملة الشهيرة إيّاها: انظروا إليها تحترق… يتذكّر وقائع حرب تمّوز. حينها لم يكن هناك لا ستوري ولا واتساب ولا تويتر. يذكر أنّ صوت الطائرة التي سمعها الفجرَ ذاك كان وما زال أعلى صوتٍ سمعه بحياته، ويذكر أنّه رفض المغادرة من دون هرّته، ويذكر أنّهم كانوا 30 نفراً في منزلٍ واحدٍ، ويذكر الرسائل النصّية القصيرة التي كانت النسوة يعرفن من خلالها ما إذا كان أزواجهنّ أحياء يرزقون أو استشهدوا، ويذكر أنّ البارجة احترقت بالفعل.
5
- اجت. سمعتها؟
- …
- سمعتها؟ عم توِنّ
- …
- عم تسمعها ولا لأ؟ حاطط السمّاعة؟
- …
- عم بحكي معك حاطط السمّاعة؟ السمّاعة السمّاعة. حاططها؟
- …
- عم بسألك اذا عم تسمعها فوق عم توِنّ. بتسمعها بلا السمّاعة؟ حاطط السمّاعة؟ السمّاعة السمّاعة حاططها للسمّاعة؟ عم تونّ فوق من الصبح عم تونّ مش سامع؟ مش السمّاعة عم تونّ الطيارة عم تونّ انت أصلاً حاطط السمّاعة؟
6
هو على الأقل هنا. بالقرب من هذه الأمكنة التي تُمحى. بين الحين والآخر، يتفقّدها خلسةً. الوجوه من حوله أليفة. الصاروخ يسمع «شخرته» ولا يراه فقط على الشاشة. هو على الأقل هنا، في آخر بقعة ما زالت تقول «لا» بوجه آلة القتل الأميركية الإسرائيلية. بين ضوضاء الحرب وخرابها، شعر بنوعٍ من الراحة والاطمئنان.
لا يريد أن يكون اليوم في أي مكانٍ آخر.
7
راوده حلمٌ: كان في شقّةٍ صغيرة مع جمعٍ كبير. استُهدفَت الشقّة: مُسَيّرة ألقت عليهم قنبلة من السماء. لم يمت أحد لكنّ الجميع تمزّق. ملأت الشظايا المكان. أعادوا ترتيب الغرف وحوّلوها إلى عيادات. لحسن حظّهم أنْ كان بينهم ممرّضتان. صاروا يتناوبون على الأسرّة في غرفة العمليات المستحدَثة وبدأت الممرّضتان تسحبان الشظايا، وهو راح يتنقّل بينهما ويجمع منهما الحديد. ثم انتبَه أن سائلاً دافئاً يسيل على فخذه. نظر ورأى دماً، ورأى شظية، فطلب من الممرّضة أن تسحبها. لكنّها كانت منهكة. فطلب من الممرّضة الثانية أن تسحبها. لكنّها كانت منهكة. بقيَت الشظية في فخذه، وبقيَ ينزف، إلى أن بدأ ذهنه يثقل وبدأ يرى أشياء. في رأسه رأى مساحةً فارغة. بيضاء أو بالأحرى لا لون لها. ثم ظهر أحدهم ومعه طَرَفٌ اصطناعي، ذهبي اللون. ثم ركّبه على شيءٍ يشبه الروبوت، هيكلٌ حديديّ ذهبي اللون أيضاً. وراح الروبوت يمشي، ومن حوله صار يشعّ نور. والنور يتّسع ويتّسع حتّى ملأ الفراغ كلّه.
استيقظ من الحلم وكان فخذه يؤلمه تحديداً في المكان الذي كانت فيه الشظية.
8
ما زالت حياته مؤجّلة. لن يرتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه أبوه. بقيَ الأخيرُ يؤجّل حياته حتّى تهدأ الأمور ثم انتبه فجأة أن الوقت انقضى كلّه وما هدأ شيء— بل أنّ الأمور كلّها تدهورت. لن يرتكب نفس الخطأ. بنى لنفسه فلسفةً تقول إنّ [الأمور التي سيفعلها وهو ينتظر أن يستعيد حياته]، هي بالفعل حياته. وتصرّف على هذا الأساس.
بلحظةٍ واحدة، شعر بخفّةٍ لا توصف. خفّةٌ تُحتَمَل.
9
هل توجدُ قططٌ في الأحياء التي نشاهدها تنفجر ضربةً واحدة؟
10
مسح عينَيه بيده ونظر إلى كفّه ورأى الدم. ثم مسح عينَيه بكفّه وهذه المرّة رأى الدمع. ثم مسح عينَيه بكفّه وهذه المرّة لم يرَ شيئاً. كان كفّه نظيفاً. التقط عن الأرض يده الأخرى وأعادها إلى مكانها. اتّصلت بمعصمه بسلاسة– كأنّ هذه اليد صُنعت لهذا المعصم. بتأنٍّ وتُؤدَة (كان يبحث دوماً عن نَصٍّ يتيح له أن يستخدم كلمة «تؤَدة») – بتأنٍّ وتُؤَدة نزع شظايا الزجاج من جسمه ووضعها جانباً كي لا تؤذي أحداً. ارتفع عن الأرض والتفت حوله ورأى الجميع يبتسمون. كانوا يُعيدون توضيب البارود في هيكلٍ حديديٍّ لامع. لم يطرح عليهم أيّ سؤال. أخذ نفساً عميقاً وملأ نسيمٌ باردٌ رئتَيه. كان الطقسُ خريفاً. لم يشعر أبداً بمثل هذا الصفاء. كان الآن يرى كلَّ شيءٍ بوضوح.