تعميم الكراهية
في خطاب الرئيس المصري قبل أربع سنوات، كان اللاجئون «ضيوف» مصر، الذين اقتسمنا معهم اللقمة رغم محدودية إمكانياتنا وما نستطيع أن نقدّمه. تفاخر آنذاك بأنّ مصر تخلو من معسكرات اللاجئين والخيام، وأن اللاجئين باتوا جزءاً من المجتمع المصري، يعملون ويتعلمون فيه كغيرهم من المصريين. ولكن منذ تفاقم الأزمة الإقتصادية في أعقاب الحرب في أوكرانيا 2022، ارتفع خطاب الكراهية ضد اللاجئين على منصّات التواصل الاجتماعي، كما تبدلت لهجة الإعلام المصري الرسمي تجاه تلك القضية. تعزز ذلك بالأساس نتيجة لتبدّل الخطاب الحكومي الرسمي من القضية. ومع اندلاع الحرب في السودان، ونزوح ملايين من السودانيين هربًا من الموت، أصبح اللاجئون كبش الفداء المثالي الذي تقدّمه الحكومة ليحمل عنها خطاياها التي سبّبت الكوارث الاقتصادية المتعاقبة. فخلال أزمة السكّر العام الماضي مثلًا، حمّل مسؤول مصري اللاجئين مسؤولية الأزمة جراء تزايد الطلب على السكّر. وتكرّر الأمر أيضًا في أزمة السوق السوداء والدولار.
إلى جانب استعمالهم ككبش فداء، زادت الحكومة في السنتين الأخيرتين من استغلالها لوجود 9 ملايين أجنبي على أراضيها- ليس كلهم أو نصفهم حتى من اللاجئين- لابتزاز الدول الأوروبية التي تُعامل مصر على أساس كونها «منطقة عازلة»، تمنع وصول اللاجئين إلى أوروبا منها، وتمنحها الدول الأوروبية حزماً مالية على هيئة مساعدات واستثمارات بناءً على ذلك. ففي أحد خطاباته، ألمح الرئيس إلى المصير المجهول للّاجئين إن تركتهم مصر إلى «البحر» والهجرة غير الشرعية، بينما قال وزير خارجيّته في مناسبة أخرى أن على أوروبا بما لديها من موارد تفوق مصر أن تتحمل عبء وجود اللاجئين في مصر طالما أن مصر لا تسمح لهم بالهجرة غير الشرعية عن طريق البحر. وفي هذا السياق، منذ بداية عام 2024، بدأت الحكومة في اتباع عدد من الإجراءات لتدقيق أعداد اللاجئين وحساب التكلفة التي تتحملها الدولة.
بالورقة والقلم
تحصل مصر على الكثير من الأموال من جهات مختلفة مقابل دعمها للاجئين. فالاتحاد الأوروبي، منذ العام 2015، دفع 38 مليون يورو مساعدات للاجئين فقط. أما المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فتشير في تقريرها الأخير إلى إنفاق «30 مليون دولار» حتى نيسان 2024، وما زالت في حاجة إلى 100 مليون دولار من أجل تغطية اللاجئين. وهذا النقص يشير إلى أن أوضاع اللاجئين المسجلين في مصر هي أوضاع بائسة وليست كما تصفها خطابات الكراهية بأنهم مافيا تخطط للاستملاك والتوطين. فالمساعدات التي يتلقونها من المفوضية زهيدة جدًا، تدفعهم للعمل كأيادٍ رخيصة. كما أنها مساعدات غير منتظمة، تحدّد وفقًا لمعايير الأكثر بؤسًا ولا يضمن الجميع الحصول عليها.
ووفقًا لأرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فإن أعداد اللاجئين الموثقين رسميًا لديها على أراضي مصر هم ما يقارب 700 ألف، أكثرهم من السودانيين ثم السوريين. وهؤلاء يحصلون على دعم المفوضية والجهات المانحة المختلفة. أما بقية الملايين التسعة من «اللاجئين» الذين تتحدث عنهم الحكومة دائمًا، فهم في الأساس يعيشون في البلاد عيشة الوافد الأجنبي، ولا تشير الحكومة إلى أن من جملتهم مواطنين من دول الخليج، يقيمون في مصر من أجل التعليم أو العمل، وكذلك الأمر بالنسبة للروس والأوكرانيين المقيمين في الغردقة من أجل العمل، ولا تُسميهم لجان الكراهية «مُحتلين» كما تُسمي السوداني والسوري واليمني. في الواقع، كل وافد غير مُسجل في المفوضية يعيش دون تكلفة خزائن الدولة جنيهًا واحدًا مثله كمثل أي أجنبي آخر على أرض مصر.
كما يتوجب أيضًا الإشارة إلى أن مصر هي جزء من محطة لمبادرات إعادة التوطين، أي أن اللاجئ المسجل في المفوضية لشؤون اللاجئين في مصر ليس مقيمًا بصفة دائمة. فالحل الدائم للتوطين ينتهي إلى إعادة التوطين في دول أخرى، كأستراليا وكندا وفنلندا وفرنسا وألمانيا وهولندا والنرويج والبرتغال والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية. وقد سبق للمفوضية أن وطّنت 4,359 لاجئًا من قبل. ففي عام 2023 مثلًا، غادر 864 لاجئاً إلى دول إعادة التوطين، وبالطبع ما زالت هناك قوائم انتظار تضمن ديمومة تلك الحالة.
ورغم تلك الحقائق، توجد حقائق أخرى مُتخيّلة تقوم عليها أسس خطابات الكراهية ضد اللاجئين في مصر على مواقع التواصل الإجتماعي، تلك الخطابات التي غالبًا ما تسبق وتمهّد لأي خطوة أو تحرك رسمي جديد من الحكومة تجاه اللاجئين.
هاشتاج
اتجه النظام المصري الحالي نحو تعزيز الشعور القومي اليميني المعروف في مصر باسم «كيميت»، وهو اسم «مصر» في التاريخ الفرعوني. يقوم هذا الاتجاه على إظهار النزعة الفرعونية واستثنائية الشخصية المصرية والتاريخ المصري، للتستر بهذا الماضي للتدليس على الحاضر البائس. وقد بلغ تعزيز الحكومة لذلك الاتجاه ذروته في عرض «موكب المومياوات» الشهير عام 2021 وما تبعه من عروض تؤكد على الأصل الفرعوني لمصر. يرى «الكيمتيين» أن العدو الوجودي الذي يُهدد الهوية والثقافة المصرية حاليًا، بعد التخلص من البعبع الإسلاموي المتمثل في جماعة «الإخوان المسلمين»، هو اللاجئون والأجانب. لذلك، على مدار السنوات القليلة الماضية، يمُكن إحصاء عدد من هاشتاجات حملات الكراهية التي وجهها أبناء هذا التيار ضد اللاجئين السوريين في البداية، حتى جاءت الحرب في السودان، لتزيد حدة ذلك الخطاب والتفاعل عليه.
في إحدى الدراسات المنشورة عام 2024 عن خطابات الكراهية في مصر على موقع تويتر، تؤكد نجوى إبراهيم، أستاذة الإعلام في جامعة حلوان، أن العيّنات المدروسة كانت تستهدف السودانيين في المقام الأول، والسوريين في المقام الثاني. كما أنها تلفت النظر إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن الكثير من التفاعل على هاشتاجات التحريض والكراهية ضد اللاجئين تسبب فيه الذباب الإلكتروني، حيث أن 23% من الأشخاص المتفاعلين على الهاشتاج كانوا حسابات وهمية. أما أصحاب الحسابات ذات الاسم والصورة (وهذا لا يشترط حقيقيّتهم بالضرورة)، فكانوا أصحاب نمط واحد هو وضع علم مصر وشعارات قومية فرعونية في النبذة التعريفية، وهو ما يؤكد فاعلية اللجان الإلكترونية في تحريك تلك القضية وإظهارها في المشهد الإعلامي في كل مرة تخرج فيها الحكومة لاستعراض ما تعانيه من استضافة اللاجئين في مصر.
إعلاميّون مُحرِّضون
بخلاف ذراع اليمين القومي وحملات الكراهية الإلكترونية، تستخدم الحكومة إعلاميّيها البارزين لتحريك قضية اللاجئين. ومن بينهم مثلًا، الإعلامية قصواء الخلالي التي تتحدّث بنفس الخلط اللفظي والرقمي في مسألة «9 مليون لاجئ». فهي لا تنفك في برنامجها عن نقل رسالة مفادها أن المصريين قد ضجروا من وجود اللاجئين في كل حيّز من الحيّزات الاجتماعية. كما ترى أن الغضب وخطاب الكراهية مبرّران. وتتجلى الوقاحة في أن قصواء لا تستنكر قيام أصحاب المشاريع الاستثمارية ببناء المجمعات السكنية الفارهة، إذا بنوها كلها من أجل إسكان أجانب ولاجئين. فهي تعد ذلك استثمارًا مُربحًا للبلد. لكن ما يزعجها كثيرًا، فهو وجود اللاجئين في المناطق الشعبية التي لا تسكنها هي بالطبع. كما أن قصواء تروج في منصتها أن اللاجئين يأخذون الغذاء والكهرباء والطرق والخدمات وكل شيء بشكل مدعوم، رغم أن نهج الحكومة على مدار 10 سنوات هو الخروج من منظومة الدعم. كما أن قصواء تتّهم اللاجئين بأنهم يلوثون الهوية المصرية والنقاء الديموغرافي المصري، كأن هذه مصطلحات حقيقية وغير متخيّلة بالفعل. الغريب أن قصواء نفسها، كانت قد خرجت، قبل أربعة أشهر، في برنامجها لتؤكد أن مصر تتحمل اللاجئين «لأننا أناس شرفاء ولن نقبل أن نتاجر بهم».
الأخطر من قصواء، هو أن يتصدى أحمد موسى للحديث عن ملف اللاجئين في مصر. فموسى الذي لا يُعدّ وصف «مجنون» أو «مجرم» أو «محرض» غير مناسب في حالته، كان قد حرض عام 2009 على قتل المواطنين الجزائريين داخل مصر بسبب مباراة كرم قدم، قائلًا «وإلا نناشد جمهورنا يقتل الجزائريين الموجودين في مصر… عندنا جزائريين موجودين في مصر، نروح لهم، نموتهم». وها هو يتصدر المشهد الآن للحديث عن قضية اللاجئين ويروج الأرقام المزيّفة عن تحمّل مصر لعشرة مليارات دولار كلفة وجود اللاجئين على أراضيها. كما أنه يتحدث عن رقم التسعة ملايين أيضًا كأنه العدد الحقيقي للاجئين في مصر. ويروج أيضًا لأكذوبة استفادة اللاجئين من الدعم المقدّم في البنزين والكهرباء والطرق والخدمات العامة والمياه. يستخدم موسى أيضًا التلويح بالطرد لمن يسميهم «المتطاولين» على بلدنا. في كثير من الأحيان يكون «المتطاولين»، كما يراهم موسى واللجان الإلكترونية، أشخاصاً قاموا بالشكوى على تيك توك أو فيسبوك من سوء خدمةٍ قُدِّمت إليهم في أحد المطاعم أو الأماكن العامة في مصر. فأحد أهم الأهداف التي ينطوي عليها خطاب الكراهية هو السعي لتقييد حرية اللاجئ وتجريده من حق الكلام، وفي تلك الحالة، سيتساوى مع المصري في بلده بالفعل، لسخرية القدر.
لكن يجب ألا ندفن رأسنا في الرمل قائلين إن خطاب الكراهية والغضب كله نابع من لجان «إكس» والإعلام، وليس له وجود شعبي. فمثل ذلك الغضب طبيعي طالما أننا لا نعيش في اليوتوبيا. فالخوف من الأجنبي/ المهاجر/ اللاجئ أو أيًا كان مسمّاه أصبح راسخًا في الدول منذ صعود الدول القومية. فباتت هناك موجة متصاعدة ضد المهاجرين في بلدان الرفاه مثل السويد وألمانيا والدنمارك والولايات المتحدة. بالطبع ليس من العجيب أن تجد غضبًا في دول فقيرة الموارد وذات اقتصاد سيئ مثل مصر، ولكنه غير سائد وغير منتظم في أشكال حركات ومنظمات سياسية تستطيع أن تؤثر على القرار، بقدر تأثير وتنظيم الخطاب الإعلامي والإلكتروني.
بحثًا عن قانون
رغم تأكيد الرئيس على حرصه على عدم تعرّض اللاجئين إلى أي إساءة، فإن دور المشرّع المصري يغيب تمامًا في سنّ أيّ قانون يحدّ من خطاب الكراهية الموجّه ضدّ اللاجئين. فالدولة المصرية لا تجابه خطابات الكراهية ضد اللاجئين بقوانين فعالة مثلما تواجه مثلًا ما تسميه ازدراء الأديان. وفي الواقع، لا يستوجب هذا التكاسل من الدولة الشفاعة كونها فتحت بابها للاجئين، فالدولة ملزمة باتفاقيات وبروتوكولات خاصة باللجوء. ومصر، وفقًا لموقع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، من بواكير الدول التي وقّعت على اتفاقية اللاجئين عام 1951 وما استتبعها من بروتوكولات عدة خاصة باللجوء. لذلك، ليس الضغط على مصر من أجل إلزامها بسنّ قوانين لحماية اللاجئين من باب زيادة عبء الدولة، بل هو واجب طبيعي يجب أن تنهض به دون أي تململ أو تأفف وأذى.