ذنب
إحساس واحد يرافق المهاجرين الجدُد، هو الذنب.
ذنب من يترك وراءه طوابير البنزين وانقطاع الدواء وانكسار المستقبل. ذنبٌ يأخذ شكل حقائب ممتلئة بالأدوية وتحويلات نقدية ونظرات شفقة تجاه من بقي في البلاد. ذنبٌ ممزوج بشيء من الخجل، خجل من يدرك أن إمكانية حياته المستقبلية مرهونة برحيله من هنا.
عبثيّة
هذا الذنب يحتاج إلى عبثية ثقافية، عبثية تؤكّده وتؤكّد أنّ قرار الرحيل لم يكن خيارًا. فهذه البلاد محكومة بدوامة قتل ودورات انهيارات، لا أفق لها إلّا الرحيل بعيدًا عنها والالتحاق بجحافل مَن هاجر مِن قبل. هي عبثية ثقافية تحتاج إلى أسطورة عن حرب أزلية، تعيد نبش صور ونصوص الحرب الأهلية الأخيرة لتفرضها على الواقع الجديد، لتجمّده في عبثية دموية.
نظرة الخارج للداخل أسطورية.
غيظ
إحساس واحد يلازم من بقيَ هنا، وهو الغيظ.
غيظ مَن بقي عالقاً في طوابير البنزين، يؤمّن دواءً من هنا ومازوتاً من هناك، لنفسه ولطبقة الأهل المهجورين من أطفالهم. غيظٌ دفينٌ تجاه مَن رحل، تجاه مَن لم يُخلَق بعد، تجاه مَن ليس مِن هنا. غيظٌ ممزوجٌ بشيء من المرارة، مرارة من يدرك أنّ حياته انتهت لحظة قراره البقاء هنا.
عبثيّة
هذا الغيظ يحتاج أيضًا إلى عبثية ثقافية، عبثية تقدّم بعضًا من المسكّنات لمن بات عالقًا هنا، عبثيةٌ تؤكّد أن لا معنى هنا، غير معنى القساوة المتفلّتة. هي عبثية ثقافية تحاول أن تؤرشف أحداثًا، معناها الوحيد أنّها بلا معنى. فيصبح التمثيل الثقافي لهذا الواقع مجرّد قاموس يفصّل عبثية الحياة هنا، ربّما كطريقة لإضفاء بعض من السخرية على هذا الغيظ الدفين.
نظرة الداخل للداخل تهكّمية.
التمثيل الثقافي
ذنب، عبثية، غيظ، عبثية… يبدو أنّ كل الأحاسيس تؤدي إلى العبثية، عبثية تسيطر على التمثيل الثقافي للواقع. فبعد نشوة الثورة وضخّها للمعاني في كل شيء، جاءت لحظة انكسارها لكي تفرغ الحياة من أي معنىً يتخطّى مجرّد البقاء على قيد الحياة. فالمعنى كان من أولى ضحايا القمع، أو بكلام أدقّ، كان سقوط المعنى شرطًا أساسيًا لعملية القمع المادية التي تلته.
إذا كانت العبثية إشارة إلى شيء اليوم، فهي دلالة عن واقع يبحث عن تمثيله الثقافي، عن روايات تنبش بين الركام عن لمحات لمعنى ما. خارج هذا البحث، سنبقى سجناء ثنائية الذنب والغيظ، ندور بين عبثية تجمّد المعنى وأخرى تفرغه تمامًا.
ملاحظة: أعطوا لبنان فرصة
كان من الممكن، وربّما من المستحسن، لو انتهى المقال عند الجملة الأخيرة. لكن لدواعٍ تحريرية، عليّ أن أكتب حوالي الخمسين كلمة إضافية.
إذا كان موضوع المقالة عن التمثيل الثقافي لواقعنا، فهناك حملة أطلقتها صحيفة عريقة، غير مفهوم مغزاها، لكنّها تمثل هذا الواقع، أو تمثّله على الأقل كما يتخيّله «إستبلشمنت» إعلامي لم يفهم بعد أنّه بات خارج هذا الواقع. لا تحتاج الحملة إلى كثير من النقاش، لكنّها دلالة عن صورة نمطية للبنان، صورة باتت عفنة ورديئة، ويمكن تلخيصها بصرخة اشمئزاز اللبناني الطيّب الذي يريد أن يعيّد مع المغتربين رغم الإنهيار، والذي لم يستوعب بعد أن نموذج الماضي انتهى. فلم يجد أصحاب هذه الحملة إلا «التقفيط» لكي يعبّروا عن واقعنا، تقفيط على مجهول، قد يكون السياسي أو الثوري أو بس الفقير…
فإذا كان الذنب والغيظ يؤدّيان إلى العبثية، لا يمكن إلّا للهبل أن يكون مصدر هذه الحملة.