المغتربون الجدد
باتت هناك آمال، غير مبرّرة ربّما، في أوساط المعارضة حول دور للمغتربين الجدد، أو ما بات يسمّى «بالدياسبورا»، في تحديد مصير الانتخابات المقبلة، تصويتًا أو تمويلًا. فالاغتراب اللبناني بات الصورة المثالية، في مخيلة الثوار، عن الناخب الصالح، الناخب الذي تهرّب من شبكات الزبائنية والترهيب، الناخب الذي سيصوّت حسب المصلحة العامة.
قد تكون هذه الآمال السياسية مرآةً للدور الاقتصادي المنوط بهذه الدياسبورا، دور كان بنيويًا لاقتصاد قائم على التحويلات الخارجية. وبات اليوم حيويًا، مع حقائب الأدوية التي أصبحت لأكثرية المقيمين، الخط الفاصل بين الحياة والموت.
كان للداخل اللبناني جاليات في الخارج. أصبح اليوم للدياسبورا داخل منهار.
الهجرة الجديدة
تأتي هذه الآمال في ظلّ إحدى أكبر موجات الهجرة والتهجير التي شهدتها البلاد منذ قرن. وهذا التوصيف ليس مجرد توصيف رقمي، وإن كانت أعداد المغادرين هائلة. فطبيعة الموجة الحالية تختلف عن الهجرة المعتادة لليد العاملة، والتي صنعت مع مرور الزمن جاليات لبنانية في الخليج مثلًا. كما تختلف عن الهجرة في زمن الحرب الأهلية، والتي بقيت مرتبطة، وإن وهميًا، بوعد العودة مع انتهاء القتال المسلّح.
باتت الهجرة الحالية أشبه بما تشهده المنطقة من تهجير لشعوبها، تهجير أو هجرة إلى أي مكان خارج الشرق الأوسط. هجرة بلا رجعة، تنطلق من إيمان مؤلم ودفين بأنّ لا أمل لأي نوع حياة هنا. دوافعها ليست أمنية أو سياسية أو اقتصادية فقط، بل وجودية، إذا أمكن استعمال هذه العبارة. هي «هجرة من دون أفق العودة»، هجرة من لا يريد العودة وإن كانت ممكنة، هجرة من فهم أنّ هنا وهناك باتا مكانًا واحدًا.
لم نعد في صدد موجات من تشكيل جاليات مؤقتة خارج لبنان، تتشوق للعودة إلى قريتها. ربّما دخلنا مرحلة تشكيل شتات لبناني، شتات قد يلعب دورًا في المستقبل أكبر من كونه مجرّد خزّان لأصوات معارضة أو مصدر أدوية مقطوعة.
ذنب الهجرة
لعلّ إحدى صعوبات مواجهة هذا التحوّل ناتجة عن سيطرة فرضية «سيادية» على فكرنا السياسي، ما زالت ترى في الداخل مركز القرار السياسي الوحيد والأصيل. وحتى لو قدّم تاريخ لبنان الحديث كل الأدلّة الممكنة لقصور هذه الفرضية، ما زال هناك رواسب سيادية، تمنعنا من فهم تطوّرات اجتماعية، خارج حدود السيادة المتخيّلة.
فالهجرة، من هذا المنظور، خروج عن السياسة، عن مكانها الطبيعي في الداخل السيادي. هي أقرب إلى «خيانة» تعاش مع ذنب مَن ترك الساحة لخصومه، أو إلى «تخلٍّ» عن الداخل للأعداء. الهجرة مؤقتة، يجب أن تكون مؤقتة، يجب أن تبقى مؤقتة، مع أفق «العودة» كالمدخل الوحيد لإعادة ضبطها ضمن حدود الفكر السيادي. «هجرة مختومة بعودة» خيار مقبول للفكر السيادي. أمّا ما نعيشه، فهو شذوذ لهذا الفكر، تطور لا يدخل ضمن مخيّلته وحدود إمكانيته.
فبدل البحث عن عودة ما، أو تلخيص هذا التطور بعدد الأصوات التي هربت من قبضة النظام، ربّما علينا البدء بالقبول بأنّنا بتنا موزَّعي أماكن الإقامة، مع ما يعنيه ذلك من علاقة مختلفة مع «المركز» الذي لم يعد إلّا ساحة معركة، إن لم يكن مجرّد ركام… مع ما يعنيه ذلك بخصوص الهوية الجامعة… مع ما يعنيه ذلك من تصوّر لطابع النظام المتخيّل.
فبدل النظر للهجرة من وجهة نظر الداخل، ربّما بات السؤال هو عن طبيعة هذا الداخل من وجهة نظر «الدياسبورا».
حرب قانونيّة
ربّما لا نحتاج إلى البدء من أسئلة نظرية، بل من المعاش الذي فرضه هذا التطور، من أساليب الصراع التي تنمو من خلال هذه العلاقة المختلفة والمتغيرة بين «الداخل» و«الخارج». فشهدنا الشهر الفائت مثلًا ما يشبه حرب زواريب قانونية مع النظام اللبناني، خاضتها محاكم أجنبية، نجحت في أن تفرض أحكامًا قانونية خارجة عن سيطرة السياسيين. فمن محاكمة منصور لبكي بتهمة الاغتصاب في فرنسا، إلى بدء محاكمة رياض سلامة في محكمة باللوكسمبورغ، بعد محاكماته بسويسرا وفرنسا، وصولًا إلى الدعوى أمام محكمة سويسرية والموجّهة ضد إلياس المر بتهمة التعذيب، قامت تلك المحاكم بالدور الذي مُنِع القضاء اللبناني من لعبه.
قد لا تنجح تلك المحاولات بسجن سياسيين أو الحدّ من ارتكاباتهم، ولكنّها استطاعت أن تنقذ مبدأ الحقيقة من ألاعيب النظام هنا. فمهما قالت المحاكم اللبنانية، منصور لبكي مغتصب ورياض سلامة حرامي… لكنّ الأهم من ذلك، أنّ تلك المحاولات توسع مفهومنا لمكان الصراع مع النظام المختبئ وراء سيادته المزيّفة، توسع ساحات الاعتراض عليه ومنطق التلاعب بين الداخل والخارج.
التفكير بسياسة عابرة للحدود، تتلاعب على تلك الحدود، بقيت محدودة في ممارستنا السياسية بـ«زيارة السفارات» و«صراع المحاور» و«تهم الخيانة»… لكنّ هناك خارجًا آخر، خارجًا معقّدًا، خارجًا لم يعد مجرّد ساحة مؤقتة لداخل أصلي. هذا الخارج قد يصبح الملعب الأساسي في السياسة في السنوات المقبلة، وربّما المختبر الوحيد لإعادة التفكير بسياستنا.