يُنشَر هذا المقال بعد أسبوعَين أو أكثر من تصدّر فلسطين الصفحات الأولى في الصحافة العالمية، وبعد أسبوعَين من سيطرة الستوريز الفلسطينية على انستغرام وتويتر وغيرها من المنصّات الافتراضية. يُنشر وسط أخبارٍ عن التعميم 158 والطوابير والتصريحات الأوروبية حول الحكومة. يُنشر إذاً ضمن الدورة العادية الرتيبة للأخبار – لا ضمن الـTrend.
ما حصل في فلسطين لم يكن بجديد، لناحية قصف غزّة أو تمدّد الاستيطان — من دون أن ينفي ذلك أن بعض سِمات الهبّة، مثل تحرّك مدن الـ48 والصواريخ التي غطّت أراضي جديدة، كان جديداً. الجديد أيضاً، كان تمكّن سردية الفلسطينيّين عن فلسطين (أو بعبارة أبسط: الواقع كما هو) من اقتحام الإعلام ومنافسة بُنى إيديولوجية سعى الاحتلال عبر عقودٍ ومليارات الدولارات إلى تكريسها.
وبقدر ما كان إيجابياً أن نرى، وأخيراً، رواية الاحتلال تتفتّت عالمياً (بعض الفضل هنا يعود ليَعقوب المستَوطن)، وأن نرى عودةَ تصدّر المسألة الفلسطينية للمشهد السياسي، بقدر ما كان إشكاليّاً التفكير بهذا التصدّر على أنّه جزء من منطق «الترَند» فقط.
أو للدقّة، تمَكّن الترند من رسم سياقٍ عام تدور فيه الأخبار المنقولة:
مثلاً عندما اضمحلّت التغطية العالمية لفلسطين من بعد إعلان الهدنة بين إسرائيل وحماس، في حين كانت الأمور على حالها في الشيخ جرّاح. أمّا فعلياً، فقد أكملت المقاومة الشعبية في غزة كما في الشيخ جراح، واجباتها النضالية بالزخم نفسه، متشكّرةً واحدةً الأخرى، بصرف النظر عمّا اختارت صحف «العالم الأول» عنوَنة صفحاتها الأولى به، وبصرف النظر عن انزلاق بعض الإعلاميين المحليّين نحو تبنّي هذه العناوين وترتيب تحليلاتهم الاستراتيجية بناءً عليها، عوضاً عن ترتيبها بناءً على تحليل الواقع.
غير أن وسائط أخرى، تلك التي تؤدّي وظيفة الإعلام البديل، من بعض المنصّات الجديدة (qudsn, eye on palestine, IMEU, metras…) إلى الحسابات الخاصة للمتواجدين هناك (آل الكرد)، تمكّنت من فرض نفسها في مساحات الأخبار، ليس بفضل النقل «الحقيقي» فحسب، بل أيضاً بفضل توسّعٍ ملفتٍ في محتوى النقل:
- عمودياً: عودة تاريخية إلى جذور المسائل، مع إعادة تفكيك المصطلحات التي استُعملَت.
- أفقياً: ألّا يقتصر الإعلام على نقل الحدث إخبارياً فحسب، بل أيضاً نقل المحتوى المحيط بالحدث: الإستشهاد بالسينما الفلسطينية، الإضاءة على الراب-سين الفلسطيني الجديد (الضبّور، شبجديد) وكيف تمكّن من تجديد الخطاب السياسي الفلسطيني بين الشباب.
إذاً، بين النقل التقليدي والصحافة العالمية العملاقة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تُفرّغ الحدث من سياسيّته، وبين الوسائل البديلة والحسابات الشخصية لأهل القضيّة، معركة إيديولوجية يسعى فيها الأوّلون إلى تعميم منطق تبنّي القضايا بحسب الترند، فيما يناهض الآخرون هذا التوجّه ويواظبون على دعم قضاياهم بصرف النظر عن مدى جاذبيّتها بعَين «الرجل الأبيض» ومن يتأثّر به.
بالنسبة لأولَئك، أبناء الترَند، تصبح صورة التصدّي للتطهير العرقي والاستعمار، أهم من فعل التصدّي نفسه. أما للآخرين، فإنّ فعل التصدّي لا يزال هو الأساس، إلى جانب الحنكة في نقله.
وهنا القَول بأنَّ المقاومة بطبيعتها مضادّة لمجتمع المشهد: والمقاومة تعني المقاومة بكافة أشكالها، دون استنسابية أو تفضيل او اشتراط؛ من المادة الإعلامية التي قدّمها الأخوان الكرد في الشيخ جرّاح، إلى صواريخ أبو عُبَيدة في غزّة. هؤلاء، تخطّوا الوهم الذي يحجب الحقيقة على حساب صورة الحقيقة، اخترقوا ستارَة «مجتمع المشهد».
ومع ذلك، تعاطي المقاومة مع «المشهد» (مع الصورة بالمعنى المباشر والبسيط)، لم يكن تعاطياً ثانوياً. بل حرص الفلسطينيّون على خَوض معركة الصورة بأبهى حللها: من صورة يحيى السنوار فوق أنقاض منزله في غزّة إلى اعتماده منطق الـ Teasing campaign لحظةَ أطلق الرقم 1,111 من دون أن يعطي تفاصيل إضافية. استطاعت المقاومة إذاً أن تلعب لعبةً إعلامية ساعدتها بمنافسة ألعاب الاحتلال الإعلامية المعتادة، حتّى أسقطَت مشهديّته.
ولتعاطي المقاومة مع «الصورة» أعماقٌ أكثر، متناهية الدقّة ولامتناهية الحيَل؛ كأن تُخاض حربٌ ضدّ أعتى جيوش العالم، ثم ينطق باسمها شخصٌ من دون وجه. أبو عُبيدة مثلاً، لا وجهَ له، لا صورة، صورته كوفية، والكوفية رمزٌ يكتنز فيه كل تاريخ النضال الفلسطيني. هذا التجريد والترميز لم يكن لأهدافٍ أمنية فقط، بل لأهدافٍ معنوية كذلك؛ إذ سمح للمقاومين ولسكّان غزّة ولفلسطينيي الشتات ولجميع المتابعين، أن يُسقطوا الوجه الذي يشاؤون تحت الكوفية - وقد يكون هذا الوجه وجهَهم، أو وجهي، أو وجهك، على أن يكون - في كل الحالات - وجهاً مناهضاً للاحتلال ولتبنّي القضايا بحسب الترَند.