تحليل مونديال 2022
زياد ماجد

عن بعض إشكاليّات «المونديال» القطري وتهافت مقاطعته

24 تشرين الأول 2022

ارتفعت وتيرة السجالات في أوروبا حول مشروعية استضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم قبل أسابيع من موعد انطلاق البطولة. ودخل سياسيون ومسؤولون محلّيون ولاعبون على خط السجالات هذه، داعين الى مقاطعة «المونديال» أو الى عدم بثّ مبارياته على شاشات عملاقة أو الى وضع لاعبي منتخبات بلادهم شعارات على قمصانهم تندّد بالانتهاكات التي تعرّض ويتعرّض لها العمّال الأجانب في الإمارة الخليجية.
كذلك نظّمت مؤسّسات عالمية ذات صدقية، مثل «منظمة العفو الدولية» وعدد من الهيئات البيئية والعمّالية، حملات ضدّ تلك الانتهاكات نفسها.

المقاطعة المستحيلة 

يمكن ذكر ثلاثة منطلقات رئيسية للحملات المذكورة.

المنطلق الأول يعدّ تنظيمَ الحدث العالمي في قطر مسؤولاً عن حوادث عمل وإعاقات ووفيّات في صفوف العمّال، بسبب مشاريع البناء الضخمة والسريعة التي يجري تنفيذها منذ سنوات من دون إجراءات أمان وحماية ومن دون تعويضات على المتضرّرين أو المنكوبين. 
المنطلق الثاني يرى في المشاريع القطرية التحضيرية والمواكبة للبطولة كارثة بيئية تضاف الى الكوارث التي تتسبّب بها مناسبات عالمية من هذا النوع. 
أما المنطلق الثالث، فمفاده أن منح البطولة لقطر لم يكن في الأساس مبرّراً. ذلك أن البلد الصغير ليس بلد تراثٍ أو تاريخٍ كروي، وأن فوزه بالترشيح ارتبط على الأرجح بمسايرة الاتحاد الكروي لكرة القدم (الفيفا) له، لأسباب متعلّقة بفساد بعض المسؤولين فيه وبضغط عليهم من الرئاسة الفرنسية ممثّلة بنيكولا ساركوزي صاحب العلاقة المميّزة (و«المشبوهة» منفعياً) بالقيادة القطرية.

للمنطلق الأول مشروعية حقوقية وأخلاقية يمكن توظيفها لفرض تحسينٍ في ظروف العمّال في قطر وتسليط الضوء على معاناتهم والتوكيد على حقوقهم في التعويضات بما يدفع الشركات الوطنية والأجنبية والدولة القطرية للاستجابة. أمّا المنطلق الثاني، ففيه مبالغة.  الحملة البيئية ضد انعقاد البطولة في قطر فقدت ذريعتها الجدّية بعد نقل البطولة الى الخريف، عوضاً عن موعدها الصيفي التاريخي، إذ انتفى التكييف داخل الملاعب الذي كان مقترحاً صيفاً، والذي لم يكن أصلاً لو حدث، ليلوّث أكثر ممّا تفعله عشرات آلاف أحواض السباحة المدفّأة على مدى أشهر طويلة في مئات المدن الأوروبية والأمريكية والكندية وسواها (من دون أن تكون المقارنة مدعاة تبريرٍ أو دفاعٍ عن التكييف). كما أن صغر مساحة قطر وقصر المسافات بين المدن وملاعبها يحول دون الانتقال بالطائرات ويقتصر على النقل البرّي، ويؤدّي بالتالي الى تقليص حجم التلويث الذي شهدته بطولات أقيمت في بلدان ضخمة (كأميركا وروسيا والبرازيل) أو في أكثر من بلد في الوقت ذاته (في حالة الكؤوس الأوروبية) حيث كانت الفرق ومشجّعوها ينتقلون جوّاً بالآلاف من مدينة الى أخرى خلال مراحل البطولة ذاتها. في حين أن المنطلق الثالث لجهة الفساد في أروقة «الفيفا» والكثير من السلطات السياسية والإعلانية الترويجية المرتبطة بها أو المؤثّرة عليها ليس جديداً ولا محصوراً في الملابسات التي أحاطت باختيار قطر لاستضافة الاستحقاق الرياضي الأهم في العالم.

على أن أيّاً من المنطلقات لا يكفي في عالم اليوم وسوابق المسابقات فيه لتقديم ذرائع لمقاطعة «المونديال» أو تجريم تنظيمه. 

ليس فقط لأن الحملات متأخّرة كثيراً، وليس أيضاً لأنّنا لم نشهد مثيلات لها عند تنظيم الكأس في روسيا العام 2018، أي بعد أن قتلت الدولة المُضيفة أكثر من 20 ألف مدني سوري على مدى ثلاث سنوات من تدخّلها العسكري في سوريا ودمّرت مستشفيات ومدارس ومخابز وهجّرت مئات الآلاف من المدنيين، ولا حتى عند تنظيم الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين هذا العام، في ظلّ استعباد الحكومة في بكين لمئات الآلاف من المواطنين الويغور وتلويثها البيئة على نحو لا يُقارن بأي تلويث في مناسبة مشابهة سابقة. 

المنطلقات هذه لا تكفي لأن التدقيق الحقوقي والأخلاقي والبيئي في معظم الاستحقاقات العظيمة يمكنه تسليط الضوء على جرائم وانتهاكات تماثل أو تتخطّى ما جرى قطَرياً، وتتطلّب إعادة نظر بنظم سياسية واقتصادية واستهلاكية وقيمية تكرّست في الكثير من أنحاء العالم منذ عقود وتقوم على الاستغلال والانتهاك وحصانة المرتكبين. 

الأهمّ، ربّما، أنّ العلاقة العاطفية بكرة القدم لدى مليارات البشر وبينهم مئات الآلاف من الرياضيين في العالم أقوى من أي حملات مقاطعة، خاصة إن تأخّرت الدعوات إليها. والأجدى اليوم بات توظيف هذه الدعوات ومثيلاتها خلال المناسبات شديدة الاستقطاب الإعلامي والمتابعة الجماهيرية والرعاية «الرسمية» المحلية والدولية، للضغط لتحسين ظروف المُنتهكة حقوقهم ومتابعة قضاياهم بما لا يقتصر على مواعيد كأس العالم.


نوفمبر أو خريف الكرة

على أن عدداً من الإشكاليات تفرض نفسها، بعيداً عن مسألة المقاطعة، في ما يخصّ «المونديال» بعد أسابيع في قطر.

توقيت «المونديال»: من هذه الإشكاليات مثلاً أن انعقاده في الخريف، بين 20 تشرين الثاني و18 كانون الأول، قد يؤثّر على المستوى الفنّي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على انطلاق البطولات الأوروبية التي يمثّل اللاعبون فيها أكثرية لاعبي المنتخبات المشاركة في «المونديال» (حتى في أوساط المنتخبات غير الأوروبية). ذلك أن مخاطر إصابات اللاعبين العضلية في هذه المرحلة أعلى، وجهوزيّتهم البدنية والذهنية أقلّ. وإذا كان صحيحاً أن المواسم الكروية الطويلة ومنافساتها تُنهِك الكثيرين منهم قبل وصولهم الى فصل الصيف، فالصحيح أن لذلك حلولاً فيزيائية. والأهم أنهم رغم الإرهاق يكونون في حزيران أكثر انسجاماً داخل منتخباتهم وأكثر معرفةً ببعضهم، وتكون المواسم الكروية قد ظهّرت كفاءاتهم وحدودها وأبرزت أحياناً في أشهرها الأخيرة نجوماً جدداً أو فرضت في بعض المراكز لاعبين لا يمكن أن يكونوا في تشرين الثاني قد لمعوا كفايةً. 
كما أن انقطاع البطولات والمسابقات عشية هذا «المونديال» وخلاله، ثم في عطلة الأعياد ورأس السنة (في أكثر البلدان) لأكثر من ستة أسابيع، تجعل استئنافها محفوفاً بمخاطر الإصابات ومبطّئاً لارتفاع المستوى التنافسي للاعبين والفرق في مرحلة يُفترض أنها قريبة من ذروة العطاء والأداء الفنّيين. يُضاف إلى ما ذُكر أن ثقافة كأس العالم الكروية تكرّست في طقوسها ومواقيتها كثقافة صيفية ترافق العطل المدرسية واحتلال أرصفة المطاعم وساحات النوادي ونهاية دورات البرامج التلفزيونية للتفرّغ للنقل المباشر وظروفه. ورغم أن هذا لا يسري على بلدان أفريقية أو جنوب أميركية أو على أستراليا، إلا أن التكيّف معه هناك على مدى عقود حصل، وهو سيكون هذه المرّة عرضة للاضطراب.

«المونديال» كمناسبة كرنفالية: ومن هذه الإشكاليات أيضاً أن «المونديال» بوصفه مناسبة كرنفالية أو مشهدية يصعب التفكير بسياقه وبالتئام تنافساته واحتفالاته من دون التفكير بالحرّيات العامة والخاصة. وهذا يعني الخوض بلا محرّمات في حرّية الملبس والعلاقة بالجسد، وفي الحقّ باستهلاك الخمر، وفي مسألة الخيارات الجنسية، وفي تحويل الحيّز العام إلى حيّز يتداخل فيها السياسي بالذاتي دون رقابة أو حدود أو «معايير» مسلكية، في ما عدا طبعاً تلك التي تشكّل تهديداً للأمن والسلامة. والتعامل مع كلّ هذا لا يبدو واضحاً بعدُ في الإجراءات القطرية المُزمع تطبيقها (وبعضه لم يُحترم في روسيا العام 2018).
ويُعطف على مسألة الحرّيات مسألة أخرى هي تلك التي تُيسّر الدخول إلى البلاد والسياحة والتجوّل فيها خلال «المونديال» بمعزل عن ملكية بطاقات المباريات والقدرة على دخول الملاعب. ذلك أن المناسبات المشابهة تشهد تدفّقاً سياحياً يواكب البطولة في الحانات والمقاهي وأمام الشاشات العملاقة في الساحات العامة، ولا يرتبط فقط بالدخول الى المدرّجات ثم بالعودة الى فنادق فخمة أو التبضّع في متاجر ضخمة أو الالتزام بتعليمات تنظيمية هي في ذاتها انتقاص من كرنفالية المناسبة واستثنائيتها ومن العلاقة الحميمة بكرة القدم ومسابقاتها (وقد شهدنا تراجعاً لكل ذلك في روسيا قبل أربعة أعوام، والتحدّي في قطر هو في سُبل إدارته وعدم تراجعه أكثر فأكثر).

يمكن ذكر العديد من الإشكاليات الأخرى المهمّة أو الأقل أهمّية. لكنها ليست استثناءً قطرياً كما يحاول البعض أن يروّج، دفاعاً أعمى عن الدولة المضيفة وإجراءاتها و«خصوصية تقاليدها» أو تهجّماً عليها لأسباب تتخطّى «المونديال» وتقارب في أحيان كثيرة العنصرية. المهمّ والضروري الآن قبل أسابيع من انطلاق الحدث الكوني الأبرز كل أربع سنوات هو استمرار الحكي عن كرة القدم وعن إمكانيّات توظيف الاهتمام فيها والوله بجمالياتها وإثارتها وبالبهجة التي تُحدثها خلال شهر كامل لتحسين شروط عيش وعمل وحماية عشرات آلاف البشر، أقلّه في مواضع إجراء المباريات التي سنتابع، كل من مكانٍ وظرف وطقس لا مشتركات فيها سوى فرحة الأهداف أو حسرة الخسارات.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الخارجية الأميركية لا تمتلك تعريفاً لمعنى «الإبادة»
غارة على الطيونة والاحتلال يوسّع دائرة التدمير والتهجير 
نواب «الماوري» يعطّلون البرلمان النيوزيلندي برقصة «الهاكا»
غارات تستهدف الغبيري لليوم الثالث على التوالي
يوميات

الإرث

جاد نصرالله
21 شهيداً في عدوان الأربعاء 13 تشرين الثاني