حديث لجوء
المعتصم خلف

ماذا تعرفون عن الاختباء؟

حوار مع لاجئين سوريّين عن العنصريّة والذلّ والعودة المستحيلة

14 تشرين الأول 2022

تستعيد كثافة العنصرية وأساليبها، وحتى الجمل التي تُستخدم ضد اللاجئين والعمال السوريين في لبنان، هامشاً ضرورياً لفهم التحول الاجتماعي الكبير الذي طرأ على مدينة بيروت، خاصةً بعد الانهيار الاقتصادي وانتشار وباء كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت. هذا التمييز اليومي الذي يضع حدوداً بين الناس بات يتطوّر باستمرار، ويفرض اضطهاداً على أساس اللهجة واللون، ويضعنا دائماً أمام أسئلةٍ مهمة: 

كيف يتعامل اللاجئون السوريون مع العنصرية؟ وهل يتجاوزونها فعلاً؟ وما مدى شعورهم بأنفسهم وبالمكان؟ وكيف يواجهون طلبات العودة إلى بلدههم؟

وضع أثر التحوّل في الحياة الاجتماعية الفردَ السوريَّ أمام أسئلة الجدوى التي بات مقتنعاً معها أنّ حياته أقلّ من أن تدخل في أيّ نقاش كبير دون أن تكون ضده. لذلك في لحظات التحول العميق، تبدو الأسئلة الأكثر منطقية هشّةً، حتى إذا ما حاولت وصف تجارب الآخرين وشعورهم.


 ماذا تعرفون عن الاختباء؟

شعور صعب لمّا تحسّ إنك دائماً مُتّهم، وتهمتك هي انتماء انت شخصياً عم تحاول تهرب منه، شو يعني لاجئ سوري اليوم بلبنان، يعني ولا شي، وهي الولا شي بتخليك مُستباح، لازم تنشتم وتنضرب وتنحرم من أبسط تعامل إنساني، وتدفع ثمن أخطاء السلطة فقط لأنك بنظرهم غير جدير بالحياة، الحياة يلي الله خلقها إلنا كلنا، فجأة بتحس انك لازم تخبي حالك منيح، تختفي إذا فيك، وصدق حتى لو اختفيت رح تبقى متّهم على لحظات كنت عم تتنفس فيها هوا بيروت. 

قال محمود (31 عاماً) كلماته وهو يحاول أن يمسح وجهه بيديه، وكأنّ ما قاله ترك على وجهه تعبيراً يشبه الخسارة. ربما لأنّ العنصرية والحديث عنها يشبهان هذه النهاية التي يدرك فيها اللاجئ السوري أنه فقدَ كل شيء فعلاً، وعليه دائماً أن يكون مستعداً لكل أنواع التهكم والتمييز. 

في البداية، عندما أخبرت محمود أنني أريد أن أجري معه مقابلة حول العنصرية ضد السوريين في بيروت، ابتسم بسخرية، وقف على طرف المطعم الذي يعمل فيه عاملاً لتوصيل الطلبات، وقال لي بلسان خفيف: إنسَ. لوهلةٍ شعرتُ أنَّ طلب النسيان هذا هو فعلاً البداية، وأن ادّعاء النسيان هو الباحة الخلفية التي خلقها السوريون دون قصد، ليرموا فيها تجاربهم القاسية في بيروت، أو سلاحهم الأخير لتجاوز واقعهم والتحايل عليه، كأنهم يحاولون النسيان ويطلبون من الآخرين أن ينسوا أيضاً.

يعمل محمود في توصيل الطلبات منذ خمس سنوات، بعد أن استأنف دراسته للأدب الفرنسي في سوريا، واتجه إلى بيروت لكي يكمل تعليمه. لكنَّ ظروف المدينة والأقساط العالية، فرضت عليه العمل في أي مهنة قد تساعده على تأمين احتياجات أمّه وأخته وابنه الصغير. 

أنا ما طلعت من سوريا لأنو أنا حابب أطلع، أنا طلعت لأنو ما بدي أقتل أو انقتل بالجيش كرمال سلطة فاشلة، كل ما فكّر كيف طلعت، بتذكر انو ما ضل إلي شي، بيتنا انقصف، عائلتي نصفها اعتقل والنصف الثاني كل واحد بمكان، وأنا لوحدي، بوضع أمني مرعب، كل هدول السوريين يلي ساكنين معي بالمخيمات الفلسطينية متل شاتيلا والبرج ومار الياس، ما إلهم صوت، كلهم هاربين من الموت، وما بدهم شي غير انهم يحسوا حالهم عالم طبيعية مش أكتر. 

قطع حديثَ محمود صوتُ صراخٍ عالٍ مصحوبٍ بغضبٍ غير مبرر كونها أوّل محاولة للنداء، لينهض بخفة إلى داخل المطعم ويخرج بأكياس الطعام وهو يحاول تكديسها في صندوق الموتوسيكل. طلب مني الانتظار لدقائق، ثم انطلق بسرعة لتبتلعه أضواء السيارات العالية. 

بعد دقائق، جلس محمود بقربي على طرف الرصيف شابكاً يديه، وكأنه ارتاح للحديث أكثر. نظر نحوي وقال: 

أنا باللحظة يلي بطلع فيها من البيت، بعرف اني طالع على عالم مش إلي، ما إلي فيه دور غير الصمت. شو يعني زباين يقولوا للمدير لا تبعتلنا الأكل مع شب سوري؟ يعني أنا أقل من اني كون موجود. كل ما وصّلت أكل بحاول أخفي حالي منيح كرمال ما يكتشف حدا إني سوري، بقلل الكلام، وأحياناً بلبس كمامة، وبالنهاية بتفتح انترنت أو بتسمع بالشارع جملة «السوري عايش أحسن منا» خاصةً بعد الانهيار، وكأنو حياة السوري محل مقارنة للذل والجوع، ولازم دائماً يضل أقل شي، وتحت بمكان ما بيمتلك فيه القدرة على الحياة.

ما بعد الانهيار الاقتصادي في لبنان، ازدادت العنصرية ضد اللاجئين السوريين في بيروت بشكلٍ ملحوظ، خاصةً بعد ترويج الحكومة اللبنانية لخطّة «العودة الطوعية والآمنة» التي تعمل على إعادة 15 ألف لاجئ سوري شهرياً إلى بلدهم، والتي أعلن عنها وزير المهجرين عصام شرف الدين، بينما صرّح النظام السوري أنَّ أبوابه مفتوحة لمن يريد العودة إلى بلده. 

سألتُ محمود: ماذا يحدث لو عدتَ إلى سوريا؟ نظر إليّ مستسلماً وقال: 

في شي ما بيعرفه النظام السوري ولا الحكومة اللبنانية، وهو إني بالليل لما بدي خوّف ابني إذا ما نام أو حل وظايفه بقلّه بدي رجعك على سوريا. سوريا صارت بالنسبة إلنا غول كبير منخوّف فيه الولاد الصغار. نجح هذا النظام بإنو يحوّل سوريا لمسلخ بيخوّف الكبير والصغير، لأنو هو بالأساس مش موجود ليبني دولة فيها عدالة اجتماعية، وإنما موجود لبناء سلطة مستعدة للقتل للدفاع عن بقائها. وشو بدو يصير يعني إذا رجعت على سوريا، انت قلي شو بصير إذا انقتل واعتقل شي ألف ولا ألفين لاجئ سوري راجعين من لبنان إلى سوريا زيادة على 500 ألف يلي انقتلوا بالحرب، ولا شي. رح نموت بس. 


 الذلّ أم الموت، أيّهما تختار؟

ما بعرف كيف بدي أوصفلك إحساسي لما بكون ماشية بالشارع ويصيروا ينادولي ارجعي على بلدك. بفكر هي العالم شو بتعرف عن سوريا أو عن الخوف والموت، أكيد ولا شي، ما حدا بيعرف الخوف متل السوري، لما تتحول بلده لأكبر تهديد، بينما هو أضعف من أنه يواجه. مفكرين السوري وضعه تمام بسوريا وجاي على لبنان بدو يستفيد منها، ما بيعرفوا أن السوري رضيان بحياة الذل وهو عم يقول الحمدلله ما في طيارة من فوقنا تقصف. هي هيه حياتنا صراحة، مقارنة بين الذل والخوف والموت، وشوف انت شو بتختار، نحن اختبرنا الموت أكثر من مرة، وما تبقى أمامنا إلا تهديد الذل.  

حاولت أم زياد (55 عاماً)، أن تستعيد صوتها الذي اختنق بعد كلمة «الموت»، لتخرج كلمة «الذل» من فمها وكأنها بحّة ضيقة لا تتّسع لتنهيدة واحدة. قالت أم زياد كلماتها ونظرت للأرض، وكأنها تحاول أن تجمع ما سقط منها وهي تعترف بما تشعر به. ربما كان أصعب شعور يواجه السوريين في لبنان هو أنهم لا يملكون خياراتهم، هذا الشعور العميق بأنَّ عليهم دائماً أن يتقبّلوا الظروف الصعبة ويتأقلموا معها. لم يمتلكوا فرصة أن يكونوا في مكانٍ أفضل من بيروت، لذلك يدركون تماماً أنه لن يحميهم أحد، وأنّ عليهم أن يواجهوا وحدهم طلبات العودة إلى سوريا، أو أسئلة البقاء، دون أن يشرحوا مدى شعورهم بالعجز. 

حاولت أم زياد أن تستعيد قوتها، بينما كان ابنها الصغير يحاول أن يقول شيئاً قبل أن يتراجع بآخر لحظة. نظرت باتّجاهي ثم نحو ابنها، وكأنها أدركت ماذا يريد أن يقول. 

ابني الصغير هاد ضل يشتغل ثلاث أشهر كرمال يشتري بنطلون عاجبه، أول ما دخلنا على محل مرتّب لنشتري البنطلون أنا وياه، طردنا صاحب المحل، أول شغلة قلنا ياها ما ضل غير السوريين يلبسوا. بتعرف ما قهرني يلي عمله، يلي قهرني انو ما فكرنا نروح على محل تاني نشتري منه، ولهلأ ما جابه.

قالت بلسانها الثقيل 

وبعدين بيحسدوك على مصاري الأمم المتحدة، وكأنو مصاري الأمم هي كل شي منحلم فيه. شو عم تعطينا الأمم، كانت الأمم عم تعطي للشخص 300 ألف، ضلت على مدار سنة سنتين تعطي للشخص 300 ألف، من فترة صار للشخص 500 ألف ومو كل العائلات السورية عم تعطيها الأمم. بلا أي مؤاخذة شو بتعمل 500 ألف للشخص، أنا مستعدة أعطي كل مصاري الأمم المتحدة، لأي شخص ممكن ينسيني لحظة واحدة عشتها تحت القصف، أو خطوة مشيتها بين الجبال على طريق التهريب.، مين نحن؟ أو شو نحن؟، ولا شي، عم نقبض مصاري مقابل خوفنا وذلنا، وإذا في واحد ممكن يطلعني من هالذل وياخد مصاري الأمم أنا موافقة. 

نهضت أم زياد فجأة من مكانها، واختفت خلف ستارة سميكة موشحة بورود ذابلة كبيرة. لم أدرك تماماً إن كانت قد نهضت لتبكي أم لتعدّ القهوة، أم الاثنين معاً. حاولتُ أن أستعيد بشيءٍ من الريبة سؤالي الأخير لأمّ زياد، «ماذا تعني العودة إلى سوريا لها؟».  بدا السؤال كبيراً، ولوهلةٍ شعرتُ بأنه جارح. فكّرتُ يا إلهي، كيف يتحول سؤال الإنسان عن بلده إلى كل هذا الخوف. ما مدى ما فعلته السلطة حتى صار مطلوباً من الصحافيين أن يدفنوا أسئلتهم عن سوريا بإحكامٍ بين الأسئلة، خوفاً على المتلقي من البكاء. حاولتُ أن أُلطِّفَ السؤال كأن يكون «ماذا تعني لكِ سوريا؟». تأملتُ السؤال جيداً، فبدا للحقيقة ساذجاً جداً. قبل أن أتخذَ أي قرار، دخلت أم زياد وهي تحمل فناجين القهوة بأيدٍ ترتجف قليلاً، حاولت أن تجلس في مكانها، ووجهها ينحني بشيء من الهزيمة، يرسم هاجساً هشّاً من الأمل. حاولتُ أن أرمي سؤالاً سريعاً وكأنني أتخلّص منه، بصوتٍ منخفضٍ وحذر. نظرت أم زياد نحوي وقالت: 

ليه في بسوريا حياة؟ المشكلة النظام مفكر انه إذا ما في إعلام حر بسوريا وما فيه إلا يصدر الأخبار يلي بدو ياها، يعني فيه يخدعنا ويخدع العالم. انو الناس مو مذلولة بسوريا، انو مو قادر يأمّن أبسط مقومات الحياة للناس. ليه سوريا أساساً معمولة كرمال الناس تعيش؟ سوريا موجودة ليبقى النظام، الناس تموت تجوع تمرض تعتقل مو مهم، المهم السلطة تعمل حفلات وتفتح فنادق وتعمل مطاعم روسية، بس نحن الناس يلي منحب ومنحلم ومنحزن ومنموت، مش مهمّين، ولازم نعيش موتنا بصمت. والله بلدنا غالية علينا، بحلم أرجع على سوريا يلي بحلم فيها، مو سوريا يلي أصغر عنصر مخابرات بيقدر ينهي حياتك

آخر الأخبار

غوغل لموظّفيها
الشرطة الإسرائيلية تعتقل الأكاديميّة نادرة شلهوب-كيفوركيان
الكونغرس يحاصر جامعة كولومبيا بتهمة التساهل مع معاداة السامية
السؤال الأبسط للخارجية الأميركية
ما فوق الإبادة
إعدام المخرّبين هو الحلّ لمعالجة مشكلة اكتظاظ السجون.