نقد الدين العام
فادي بردويل

آلهة وعاملات

10 آذار 2020

ظهر البروفيسور حسان دياب بكاريزماه المعتادة، وقد ازداد تألقاً هذه المرّة بعدما صفّ وزراءه كتلامذة ابتدائي حُبسوا في مقاعدهم فتصنّعوا الجديّة، وأطلق بعضهم نظرات نحو المستقبل علّها تقلب لغو البروفيسور الإنشائي إلى كلمة تاريخية. قبل ذلك المشهد السوريالي بأشهر، بدأ اليوروبوند تغلغله في الحياة اليومية.

خرج اليوروبوند منذ استحقاق تشرين الثاني الماضي الذي سدّده حاكم مصرف لبنان (حوالي 1,5 مليار دولار) من تحاليل الخبراء الاقتصاديين التقنية وحسابات المصرفيين السريّة إلى السياسة العلنية والتحرّكات الشعبية. ساهمت 17 تشرين والانهيار المالي بإنزال الاقتصاد من علياء جلسات مجالس الإدارة إلى الشارع، وقرّبت الأرقام المجرّدة من المعاش اليومي.

لكن بالرغم من كلّ ذلك، حافظ اليوروبوند، خاصة عند أنصار دفع استحقاقات الدين، على هالة قدسية. لُفِظ اسمه بجلال يزيده شقّ «اليورو» منه رِفعةً. رُفع إلى مصاف إلهٍ شَرهٍ ينتظر أضاحيه الموسمية بلهفة. لا يكترث لحاجات البشر اليومية الوضيعة. قمح، دواء، فيول... ما كلّ هذا. إن تخلّفتم، يقول الإله، ستلاحقكم لعنتي إلى الأبد. سأخرجكم من الأسواق المالية العالمية وأقضي على سمعتكم في المجتمع الدولي. عليكم بخدمة الدين، ولو أتى عليكم ذلك بالجوع والمرض والعوز.

لكنّنا بتنا نعرف أنّ لذلك الاله المتوعِّد، ذلك الذي يكتسب قوّته من عدم قدرتنا على لمسه، وجوهاً وأجساداً. نعرف بعضاً منها. نعرف أنهم بشر عاديون مثلنا، كأعضاء جمعية المصارف التي حذرّت من التخلّف عن دفع استحقاقات الدين واصفةً إياه بالحدث الجلل. إن دقّقنا أكثر، نجد أنّهم نوع محدّد من البشر: بضعة ذكور بربطات عنق. لا توجد سيّدة واحدة ضمن أعضاء مجلس إدارة جمعية المصارف. ولا أظنّ أن الجمعية منذ تأسيسها سنة 1959 إلى يومنا هذا قد انتخبت يوماً امرأة لعضوية مجلسها. ستّون سنة من الذكورية المالية النقيّة.


لكنّنا لا نعيش فقط تحت رحمة سلطة مالية مجرّدة لا يمكن التقاطها بعدسة، مقارنةً بعصا الشبّيح قبل انقضاضه. تعيش بيننا منذ السنوات الأولى للحرب الأهلية، وتحت رحمة نظام القسوة اللبناني، نساء عاملات، مهاجرات، سمراوات، يشكّلن الصورة المعكوسة لإله المال المصرفي. فهنّ مرئيات جداً، عددهنّ الآن أكثر من 300 ألف، أي ما يوازي 5٪ من السكان. إلا أنّ كلّ شيء في هذا النظام (قوانينه، أجهزته، إعلامه، نخبه) يتآمر لخنق أصواتهن وجعلهن غير مرئيات.

يتوّقف الاقتصاد اللبناني الحرّ الذي يتغنّى المصرفيون به عند عتبة المنازل. فالعاملات المنزليات المهاجرات لا يبعن قوّة عمل مجرّدة، بل طواعيّتهنّ للانصياع المتواصل لأوامر السيّد والسيّدة وأولادهما. يعملن في أسْر، بلا دوام محدّد. لا يتاح لهن أحيانًا كثيرة الراحة اللازمة لإعادة إنتاج قوّة عملهنّ. إرهاق جسدي ونفسي. خطر العنف والاعتداءات الجنسية كبير تسهلّه وحدة مكان العمل والسكن ونظام الكفالة الذي يجرّدهنّ من كافّة الحقوق المدنية والسياسية.

إضافةً إلى أعمال التنظيف المنزلي، تعتني أيديهن بالأطفال والمسنّين، أكثر الفئات هشاشةً. يشكّلن جزءاً رئيسياً من اقتصاد الرعاية المنزلي الذي يحرّر ساعات للعمل واللهو لمستخدميهنّ، ويسهّل للبعض العمل خارج البلاد أو حتّى الهجرة. يقمن بأكثر الأعمال حميميةً من تنظيف الأجساد العارية والإطعام والمساعدة على المشي والمؤانسة اليومية لكائنات يصعب عليها تدبّر أمرها بنفسها. لكنهن، وهنا المفارقة، أبعد الناس، وأكثرهم غربةً.

يدخلنَ البيوت غريبات، ويخرجنَ منها غريبات، على رجلَيْن أو...في كفن. يدخل موتهن، انتحاراً أو عند محاولة الهرب، في باب الأخبار المتفرّقة التي لا ترقى إلى مستوى الحدث السياسي ولا تمسّ حتماً بسمعة البلاد. فالقضاء والقدر في هذه الحالة ليس إلا اسماً مستعاراً لنظام الكفالة الذي يعيد انتاج نفسه كلّما قلب مآسي استغلاله المشرّع إلى حوادث شخصية.

يتحمّلن اليوم أعباء الانهيار أضعافًا. توقّف بعض أرباب العمل عن الدفع. يدفع الأخرون بالليرة. يخسرن ما يقارب نصف معاشاتهنّ جرّاء صرفها للدولار من أجل تحويلها للخارج. حجز الجوازات وسجن النظام وكلفة العودة إلى أوطانهن تعرقل عملية فكّ الأسر.


العُمران وجه أخر من وجوه النظام، وشاهد على تكبّره. لم تُترَك حارة إلّا وزُرع فيها فرعٌ لمصرف. ولم يُشيَّد مبنىً ولم تصمَّم شقّة دون «غرفة خادمة». لم يتوقع نظام آلهة المصارف والكفالة يوماً إمكانيّة هلاكه. ربّما اعتقد بأنه قهرَ الزمن. بلدنا فعلاً، كما قال البروفيسور، «رائع واستثنائي».

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تخطيط قيمة حياة فتاة عشرينيّة مقيمة في بدارو
وزير الدفاع الإسرائيلي يزور جنود الاحتلال في جنوب لبنان
وليد جنبلاط في سوريا
جيش الاحتلال يحاصر مستشفى كمال عدوان ويهدّد بإخلائه
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة
سينما متروبوليس تعود