لم أتصوّر يوماً أن أفقد عقلي إثر فقدانِ شخصٍ لا أعرفه. فالعقل يُفقد لأجل مَن نعرف ومَن نحبّ.
ثلاثُ عشر يوماً من الحرب على غزّة والعالمُ مُستيقظٌ يتابع الأخبار. يكتب، ينشر، يشارك، يتجادل، يتقاتل… دوّامةٌ من عاجزي الكون يدافعون ويرفعون الصوت عن عاجزي غزة. يقولون أنّ للحرب قواعد، فمَن يضعها؟ ومَن مِن حقّه الإخلال بها؟ كيف نصل إلى «الحقيقة»؟ مَن يصوّر بالضبط ما يحدث؟ مَن نصّدق؟ ما هي اللقطات الصحيحة / ما هي تلك المُتلاعب بها؟ أسئلة كبيرة، كثيرة، لكن هناك سؤال يشغلني بالتحديد: أين بيسان؟
بيسان صانعة أفلام فلسطينية، راوية قصص وناشطة. فنّانة، قلباً وقالباً. بيسان حالها حال العديد من الفلسطينيّين الشجعان، تغطّي الحرب على غزّة من ساحة المعركة نفسها، تنشر محتوى يومياً لما يحدث داخل المجتمع، تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي ومقاطع فيديو بسيطة لإيصال رسالةٍ فشلت وسائل الإعلام العالمية بإيصالها.
تعيش بيسان وبلادها يوماً. تموت يومَين. ثم تحيا في اليوم الثالث. حلقة لا تنتهي.
محتوى بيسان يقلب الكوكب. على مدار الساعة، ينتظر كثرٌ فيديوهاتها. يُشاهدون وجهها المرتعب وصوتها المهتزّ، أثناء نقلها حقيقة ساحة معارك غزة. وقد انضمّ أكثر من 300 ألف متابع إلى قناتها في الأسبوع الأول من الحرب.
بيسان أفضل من البث المباشر، أقوى من أي قناة إعلامية، وأدقّ من كل الأخبار.
أمس الأوّل، في 17 أكتوبر 2023، قصفت الغارات الجوية الإسرائيلية المستشفى الأهلي المعمداني في غزّة. تركت الغارات أمام الشاشات كائنات يائسة، خائبة، محطّمة، وخلف الشاشات، تركت جُثثاً.
أكثر من 400 ضحية في أقلّ من دقيقتين.
ساد جوّ من الصمت والبكاء والغضب والشتم والصراخ والخيبة.
نحن نشهد إبادة جماعية على بعد ساعة واحدة من منازلنا، وأيادينا مكبّلة.
ربما يستحق العالم مثل هذه الصدمة ليستيقظ من خموله، لكن من يوقظ الجثث الملقاة على أرض غزة؟
وأين بيسان؟
هرعت إلى هاتفي، فبيسان بالتأكيد ستنشر عمّا حصل. هي التي أصبحت من بين فلسطينيين آخرين مصدرنا الأول للأخبار الحقيقية.
لكنّ بيسان لم تنشر.
ساعات على مجزرة المستشفى المعمداني، وبيسان لا تزال صامتة.
ولا يزال حسابها يتلقّى الرسائل والتعليقات والمشاركات، لكن بيسان نفسها غير متاحة.
هل ماتت بيسان؟
لقد ذكرتْ أنها متّجهة إلى مستشفى. هل هو المستشفى نفسه؟
تملّكتني حلقة من الخوف والرعب، نعرف بيسان من دون أن نعرفها، نحبّ بيسان من دون أن نلتقي بها، نخشى حياتها كما لو أنّها عاشت بيننا طوال حياتها. هل هذه هي الحرب؟ تخلق جسورَ تعاطفٍ بيننا، فقط بعد فوات الأوان؟
مرّ الليل بأكمله وأنا أبحث عن بيسان. أكتب اسمها على جميع المنصات آملةً أن أتلقّى أخباراً عنها. أدعو الله أن تكون آمنة. ربّما تكون بخير لكن بطارية هاتفها قد نفدت؟ لا جواب.
عند شروق الشمس، كان بحثي لا يزال عاجزاً. لا أخبار عن بيسان، لا مشاركات، لا محتوى، لا تفاعلات.
تبادلتُ مكالمة هاتفية مع صديقتي وأخبرتها عن الهوس الذي يكمن وراء بحثي عن بيسان. لأتفاجأ بردّها: «أنا كنتُ أبحث عن بلستيا طوال الليل أيضاً».
وصل الأمر إلى هذه النقطة، لبنانيتان تبحثان عن فلسطينيتين. أنا من غرفتي أحاول العثور على بيسان، وصديقتي تحاول من غرفتها العثور على بلستيا.
“Wizard_bisan1 just shared a Reel”
رنَّ إشعارٌ على الهاتف: إنّها قيد الحياة! لقد نشَرَت.
كانت يدي ترتعش وأنا أحاول الضغط على شاشة هاتفي. إنها قيد الحياة.
بكت بيسان عينيها، وهي تنقل مذبحة غزة، تصوّر الشوارع، والوجوه، والدماء، والجدران المهدّمة من زاوية ناجية فلسطينية نامت البارحة، من دون أن تعلم ما إذا كانت ستستيقظ في الغد.
نجت بيسان وبليستيا ليلة أخرى، ولكن أي حياة هذه؟ لا مكان تذهبان إليه ولا مكان تُقيمان فيه، لا حدود تعبرانها ولا مأوى يحفظهما آمنتَين.
وسط كل هذه الفوضى والارتباك، تبقى النتيجة ذاتها:
الخير يموت ويذهب الشرّ بلا عقاب. ولكن إلى متى؟
رنَّ إشعارٌ آخر على الهاتف. إنّها بيسان مرّةً أخرى.