تعليق طوفان الأقصى
سامر فرنجية

إعادة تعريفٍ للإبادة

27 آذار 2024

منذ بداية الحرب على غزّة، سُمِّي ما يجري بالإبادة. لم ينتظر المعترضون على الحرب حكمًا قضائيًا أو اعترافًا دوليًا من أجل الإستعانة بهذا المصطلح لوصف ما يجري، وهو وصف ذو تاريخ ومعانٍ محدّدة. لكنّ في هذه التسمية أكثر من وصف لأحداث أو محاولة لاستمالة رأي عام. هي إعادة تعريف لمصطلح الإبادة وتاريخه بغية تسييسه من أجل راهنية العدالة.


لو كنّا نعلم

في تأريخ اللحظات السوداء للإنسانية، لحظات الإبادات والمجازر والمحارق، يعود دائمًا السؤال ذاته عن كيفية «تأقلمهم» مع الفظيع، والـ«هم» هنا تشير إلى الأجيال السابقة التي عايشت الحدث ولم تعارضه. السؤال ليس معرفياً بل أخلاقي، وهو عن كيفية «تعايشهم» مع ما يبدو لنا، من حاضر ما بعد فظاعة هذا الحدث، خارجاً عن الإنسانية وغير قابل للتعايش معه. فـ«هم»، وإن لم يشاركوا بالحدث، متخاذلون تجاهه، مطبّعون معه، ساقطون أخلاقيًا لمجرّد تزامنهم معه، بنظرنا «نحن»، مَن جاء بعد الحدث.

مصطلح الإبادة، كاسم للشرّ المطلق، يطرح سؤال المعرفة والمسؤولية، وهي مسؤولية مجتمع حيال هذا الحدث الذي يبدو عصيّاً على الاستيعاب ضمن حدوده الأخلاقية.

ربّما من أجل الحفاظ على بعض الاستمرارية الجيلية والكونية الأخلاقية، تمّ «حمايتهم»، «هم» الذين عايشوا مجازر مجتمعهم، من خلال عذر معرفي: «لو كانوا يعلمون، لما كان حدث ما حدث». ففظاعة الحدث لا تتّضح إلّا بعد مرور الزمن، والحكم عليهم من الحاضر غير عادل. «هم» عايشوا حدثًا، أخذ معانيه بعد مرور الزمن، ما يفسّر سهولة التطبيع معه. «هم» لم يفهموا لماذا كان اليهود يختفون من مدنهم، أو ما كانت تفعله «جيوشهم» في المستعمرات، أو بنية العبودية التي أمّنت بياض «مدنهم».

«لو كانوا يعلمون» هي محاولة للتخفيف من الفضيحة، ودرس للمستقبل. «لو كانوا يعلمون» مدخلٌ لشعار «لو كنّا نعلم» وضمانةٌ لعدم تكرار الماضي: «علينا أن نعلم». هكذا دخلت الإبادة في التاريخ، لتشكّل اسم الشرّ المطلق. 


لكنّهم يعلمون

من الصعب اليوم تجاهل الإبادة في غزّة. لا نحتاج إلى المستقبل لمعرفة ما يحدث الآن وفظاعته. فهي باتت في كل مكان، على شاشات الهواتف، في التظاهرات الأسبوعية، بين سطور الأخبار، في تقارير المنظمات الدولية. لا داعي لفضح ما يحصل، فجنود الإبادة يصوّرون أفعالهم، ينشرونها، يريدون أن يعلم العالم أن هناك إبادة… ولا شيء سيمنع استمرارها.

«يعلمون إذن»، ولن يستطيع أحد في المستقبل أن يقول «لو كنّا نعلم». «يعلمون إذن»، والـ«هم» هنا تشير إلى الأجيال التي تعايش الحدث، ولم تحرّرها المعرفة من التعايش مع فعل الإبادة. لم تنجح المعرفة بلعب الدور الأخلاقي المنوط بها كضمانة لعدم تكرار الماضي. أبعد من ذلك، فضحت «معرفة الإبادة» سهولة التعايش مع الفظيع وتطبيعه، أو حتى تسليعه، لتجيب على سؤال كيفية «تأقلمهم» مع الإبادة، «هم» الماضي أو «هم» الحاضر، لم يعد هناك فارق.

يعلمون هذه المرّة، وكانوا يعلمون في الماضي، هذا ما تؤكدّه كل صرخة «إبادة» في وجه مسؤول غربي أو إعلامي متعجرف. فوصف الحاضر بالإبادة هو اتهام لمجتمعات تتعايش مع الإبادة وتعايشت مع الإبادة في الماضي، رغم ادعائهم بأنهم ما كانوا يعلمون.   


ماضي الإبادة ومستقبلها

زمن «الإبادة» هو الماضي، أو هكذا أرادوا لها أن تكون في مخيلتهم الأخلاقية. هي في الماضي لأنّ تحديد ماهية الحدث يحتاج إلى وقت لفهم ما جرى وتحديد المسؤوليات المباشرة والتأكّد من وجود نيّة إبادة شعب. «الإبادة» تعريف يأتي دائمًا متأخرًا، لا لمنع حدوث الإبادة بل لمنع تكرارها في دوامة من التكرار. فيتمّ «الاعتراف» بحصول ابادة ما في الماضي، وربّما في بعض الأحيان، يتمّ التعويض الرمزي لضحاياها. لكنّ الإبادة لا يمكن وقفها. فهي أصلًا ليست إبادة لحظةَ حصولها، بل تصبح إبادة بعد أن تنتهي ويمرّ الزمن لكي يثبّت مفاعيلها التي لا عودة عنها.  

هناك إذن ماضٍ كانت فيه إبادة، ومستقبل «ما بعد الإبادة»، لتكرار جملة أدورنو الشهيرة «بعد أوشفيتز…»: بعد أوشفيتز، بعد رواندا، بعد حلب، بعد غزّة، بعد البوسنة، بعد دارفور… لكنّ تكرار الـ«بَعد» يظهر فراغ هذا الفاصل المتخيّل في التاريخ، يسلّعه، ليصبح مجرّد طريقة للتأقلم مع الإبادة من خلال طمأنة النفس بأنّ هذه المرّة هي الأخيرة، فعليًا الأخيرة، قبل أن نعود ونكتب: بعد…

الإبادة، كاسمٍ للشرّ المطلق، مصطلح أخلاقي يراد منه تثبيت رواية أخلاقية عن عالم نبذ الشرّ، إن لم يكن اليوم، فبعد… هذه ضمانة هذه المجتمعات التي اعتقدت أنّها نبذت الشرّ. 


حاضر الإبادة

في تعريف ما يجري في غزّة كفعل إبادة، وعدم انتظار تأكيد المستقبل لما جرى، يزعزع معارضو الحرب هذه الرواية ويعيدون تسييس مصطلح الإبادة. فلم ينتظر أحد، هذه المرّة، تأكيد آتٍ من المستقبل أو اعترافاً دولياً أو خلاصة محكمة العدل الدولية لتحديد ماهية ما يجري. إنّها إبادة تحصل في الحاضر، مرتكبوها وضحاياها معروفون بالإسم، نيّة الإبادة تذاع يوميًا على وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومفاعيلها باتت تتّضح من الآن.

الإبادة تحصل الآن، ليس في ماضٍ بعيد. الآن، وسوف تنتهي أيضًا في الحاضر.

لكنّ سحب «الإبادة» من الماضي والمستقبل، ووضعها حصريًا في الحاضر ليس فعل تأريخ. هو تحويل لمعنى هذا المصطلح، من تعريف أخلاقي إلى آخر سياسي. هو دفع للسؤال السياسي إلى الواجهة، أي «كيف نوقف إبادةً تحصل الآن؟»، بدلاً من سؤال «كيف نمنع إبادةً أخرى من الحصول؟». هو محاولة لمنع مفاعيل الإبادة من الحصول، بدلاً من البحث الرمزي عن تعويض بعد حصولها. هو رفض لهذا التأجيل الدائم للعدالة إلى «زمن ما بعد الإبادة»، زمن لن يأتي، من أجل راهنية الحاضر.


أن نصف ما يجري في غزّة بالإبادة، هو أيضًا أن نعيد النظر برواية أخلاقية، نزّهت نفسها عن فعل الإبادة، لكي تؤجّل العدالة إلى غد ما بعد الإبادة. هو أيضًا إعادة طرح لمسألة المسؤوليات في عالم يكتشف سهولة التعايش مع الإبادة، في الماضي والحاضر.

أن نصف ما يجري بالإبادة هو اتّهام، ليس فقط لمرتكبيها، بل لمنظومة فكرية وأخلاقية جعلت الإبادة استحالة أخلاقية وواقعاً سياسياً في الآن نفسه.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تحقيق لجيش الاحتلال حول مقتل 6 أسرى إسرائيليّين بغزّة 
جائزة الشجاعة لوائل الدحدوح
عودة الناس، رحيل الأماكن
الصحافي فراس حاطوم يواجه «الحوت» هشام عيتاني 
تجميد الحسابات المصرفيّة لشقيق الوزير أمين سلام
4,047 شهيداً 16,638 مصاباً منذ بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان