تحليل فلسطين
طارق أبي سمرا

إنكار الإبادة شرطٌ لارتكابها

5 آب 2025

إذا كانت إسرائيل ترتكب إبادة بالفعل، فلماذا لم تقتل أكثر من 60 ألفاً من سكان غزّة؟ سؤالٌ لا ينفك يطرحه كثيرون من المدافعين عن الدولة الإسرائيليّة، منكرين الصفة الإباديّة للحرب التي تشنّها. على سبيل المثال، كتب الصحافي الأميركي بريت ستيفنز في مقال نُشر في «نيويورك تايمز» بتاريخ  22 تموز المنصرم: 

إذا كانت نوايا الحكومة الإسرائيلية وأفعالها إباديّةً حقّاً، وإذا كان شرّها يبلغ حدّاً يجعلها تسعى إلى إفناء الغزّاويين، فلماذا لم تكن أكثر منهجيةً وفتكاً بكثير؟ ولماذا لم نشهد، مثلاً، مئات الآلاف من القتلى بدلاً من نحو 60 ألفاً (...)؟ فإسرائيل لا تفتقر إلى القدرة على إلحاق دمار أعظم بكثير ممّا أوقعته حتى اليوم.

قد يبدو هذا السؤال مقزّزاً لكثيرين، فضلاً عن أنّه ينطوي على تضليل متعمّد لسببين رئيسيين: 

  • أوّلهما أنّ عدد القتلى البالغ 60 ألفاً يمثّل حوالي 2.7 بالمئة من إجمالي سكّان غزّة، وهي نسبة تعادل 9 ملايين شخص من سكّان الولايات المتحدة.
  • وثانيهما أنّ هذا الرقم لا يشمل سوى الوفيات المباشرة الناجمة عن القصف والمعارك، ويستثني الوفيات غير المباشرة، كمن قضوا متأثرين بجراحهم، أو بسبب نقص الرعاية الطبيّة، أو بفعل الأمراض والأوبئة وسوء التغذية، فضلاً عن آلاف المفقودين الذين يُرجّح أنّهم لقوا حتفهم تحت الأنقاض. فإذا احتُسِبت هذه الوفيات غير المباشرة، قد يتجاوز عدد الضحايا، وفق بعض التقديرات، 180 ألفاً.

لكن لنأخذ السؤال على محمل الجدّ ونتأمّل الحجّة الكامنة فيه: وهي أنّ إسرائيل قادرة على قتل عدد أكبر بكثير من الغزّاويين، وبما أنّها لم تفعل، فهي تالياً لا ترتكب إبادة. في هذه الحجّة شيءٌ من الحقيقة، وهو أنّ إسرائيل تملك بالفعل القدرة على ذلك. فبالرغم من هول المذابح التي تقترفها يوميّاً، فإنّها تستطيع، نظرياً، أن تقتل عدداً أكبر من المدنيين. لكنّها لا تفعل ذلك لسبب بسيط للغاية: كي تظلّ قادرة على الادّعاء بأنّ ما تقوم به لا يرقى إلى الإبادة.

صحيحٌ أنّ هذا الادّعاء بات يلقى تصديقاً متضائلاً، لكن البعض ما زال يتمسّك به. فثمّة عتبة من الفظائع تحرص إسرائيل على ألا تتجاوزها، ذاك أن تجاوزها سيفضحها نهائيّاً، فيجعل من المستحيل حتّى على من يريد تصديق ادّعاءاتها الكاذبة– ولو نفاقاً– أن يستمرّ في ذلك. بمعنى آخر، مهما توحّشت إسرائيل في جرائمها، علناً وعلى مرأى الجميع، فإنّها تتفادى بلوغ حدٍّ قد يؤدّي إلى إجماع عالمي قاطع على أنّها ترتكب إبادة.

فما يتجاهله السؤال الذي عاينّاه هو أنّ القدرة على إنكار وقوع الإبادة– ولو جزئيّاً– تُشكِّل، في كثير من الأحيان، أحد الشروط الأساسيّة التي تتيح حصولها. بهذا المعنى، فإنّ النيّة الإباديّة قد تكبح أحياناً العنف والقتل إلى حدّ ما، فتحول دون بلوغهما أقصى الحدود.


لعلّ أبرز مثال على أنّ ارتكاب الإبادة يشترط إمكان إنكارها هو معسكرات الموت النازية: فقد عمد النازيون، في البداية، إلى إخفاء طبيعة هذه المعسكرات، ممّا يتيح الافتراض أنّه لولا هذه السريّة، لما تمكّنوا من تشغيلها على النحو الذي فعلوه، إذ لربما كانوا واجهوا حينذاك مقاومة ما– من الضحايا أنفسهم، أو من بعض الضبّاط والموظفين الإداريين، أو حتّى من المواطنين الألمان. أو على الأقلّ هذا ما ظنّه النازيون، وهو ما دفعهم إلى الحرص على تلك السريّة.

وبالعودة إلى الحاضر، نجد أنّ إحدى الوسائل الرئيسية الأخرى لإنكار الإبادة في غزّة تكمن في استحضار معسكرات الموت النازية، وهو ما يفعله بشكل منهجي مَن يطرحون سؤال: «لماذا لم تقتل إسرائيل مزيداً من الفلسطينيين؟» – ومن بينهم بريت ستيفنز، الصحافي الأميركي المذكور آنفاً. في هذا السياق، تُستخدم المحرقة اليهوديّة بطريقتين، الأولى تتمثّل في تبرئة الإسرائيليين سلفاً باعتبار أنّه من المستحيل أن يرتكب أحفاد ضحايا الهولوكوست بدورهم إبادة. بهذا المنطق المنحرف، تتحوّل المحرقة اليهودية إلى رخصة للقتل.

أمّا الطريقة الثانية، فتكمن في اعتماد الهولوكوست نموذجاً وحيداً ومطلقاً للإبادة، بحيث تُحجَب هذه التسمية عن كلّ ما لا يرقى إلى وحشية المعسكرات النازية ومنهجيّتها في القتل. وهذا بالضبط ما يضمره السؤال عن عدد القتلى، فكأنّ من يطرحونه يقولون: إذا لم يُسَق جميع سكّان غزّة إلى معسكرات يبادون فيها حتّى آخر فرد، فإن ما يتعرّضون له لا يمكن أن يُسمّى إبادة. فطالما بقي غزّاويٌّ واحد حيّاً، فإنّه سيُستخدم كدليل على أنّ الإبادة لم تقع. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً