مَريَم
عمرُ طفلتي عشرة أيام. لم نختَر لها إسماً بعد. ألفّها بحرام، أحملها وأركض نحو الوادي. أضعها عند جذع شجرة. أتركها وأهرب. كنت أدبّر أمور المنزل حين وصل خبر دخول فرقة جنود إسرائيليين إلى القرية متنكرين بزيّ جيش الإنقاذ العربي. عرفنا في ما بعد أنها تسمّى الهاغانا، أي الدفاع بالعربية. سمعت أنهم يجمعون الرجال لإعدامهم وسيأتون إلى باقي الأهل. ربمّا أوقفوا زوجي في طريقه إلى فلسطين حيث يذهب إلى عمله كل يوم. هو من قلّة نَجَت من مجزرة حولا في 31 تشرين الأول من العام 1948. سَيرجِعُ في المساء والقرية ليست على الحال كما تركها صباحاً. معظم أترابه حُشروا في بهو أحد المنازل ورُميوا بالرصاص. نذهبُ ونبحث عن الشجرة التي تَرَكتُ مولودنا الأول عندها. كانت هذه أولى حروبي التي عرفتها مع إسرائيل. سأختبر خمسة غيرها وأنجِبُ إثني عشرَ ولداً. سأموت بعد حرب تموز 2006 بأشهر قليلة جراء ورم خبيث تسبَّبَت به مواد الصواريخ السامّة التي سقطت فوق رؤوسنا حين عَلِقنا في حولا طوال ثلاثة وثلاثين يوماً.
عفيفة
تركتني أمي في أحراش الضيعة الوَعِرة عند جذع شجرة كبيرة. تقول إنها خافت عليَّ من القتل أو الخطف بعدما أعدموا أبي مع جميع رجال القرية. «خَبّأتُكِ ولَم أرمِك!»؛ تبرّرُ فعلتها بأنّ ما أرادته هو إنقاذي لأعيش ولو شَبَبْتُ يتيمة أو أخذتني الذئاب وأرضعتني كـ«ماوكلي» فتى الأدغال. سنتذكّر الحكاية دائماً مع أولادي، لأطالب والدتي ممازحة، كيف تجرّأت وفعلت ما فعلته! ومريم تستشيطُ غضباً لعدم تقدير عملها البطولي آنذاك. اليوم وفي العام 2024، تجاوزتُ من العمرِ سبعين عاماً عرفتُ فيها سبعَ حروب إسرائيلية. أنجَبتُ خمسة أولاد ركضتُ بهم من الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت إلى مناطق آمنة لأحميهم. لكنهم في هذه الحرب الأخيرة يركضون بي فأتعثّر وأعيق تقدّمهم. إنها المرة الأولى التي أخاف فيها فيشعرون بي. أطلب منهم استصدار جواز سفر لي لأهرب. إلى أين؟ لا أدري. أنا خائفة.
جود
«قَوّصه، قَوّصه هيدا من الضاحية!»، يأمرني رفيقي طوني بحماسة ونحن في خضمّ لعبة الحرب الإلكترونية. تسمعنا «تيتا عِفّو» فتضحك قبل أن تشرح لي بهدوء أن والدي شَبَّ في الضاحية وأنَّ لهم منزلاً هناك كان يوصلني عندهم ليرعوني حين يذهب هو وأمّي لممارسة عَملهما. بابا يغضب أيضاً عندما أقول «مشكل سوري» في دلالة على القوة التي أريدها لمّا نتعارك بالأيدي لَعِباً، ويصرخ بي «عَيبْ هالحكي». أبي دائم الصراخ والعصبيَّة. لم أزُر جدتي منذ شهر في عطلة نهاية الأسبوع كما جرت العادة. فقد هربتُ مع أمي إلى مصر لأنّ في لبنان حرباً. أوصلنا أبي إلى المطار وضمّني قائلاً إننا ربما لن نلتقي مجدداً قبل وقت طويل. وكلّما سألتُ أحدهما إلى متى سنبقى في مصر أو هل سأرجع يوماً، يجيبان «مش هلق، لنشوف شو رح يصير». حين أعود، وعندما ستطلب منّا المعلّمة أن نكتب نصّاً من عشرة أسطر أَصِفُ فيها ماذا فعلت في السفر، سأحكي: أنني أكره الدراسة أونلاين. وأنني أريد العودة إلى لبنان على الرغم من خوفي، ورفض أبي لذلك. يقول إنه لا يريد لي أن أعيش طفولة أصعب من التي عرفها، كي لا أَرِثَ معاناة جيله وأمراضه. يقول إن هذا البلد ليس مستداماً، وإنَّ عليه تأمين مستقبل أفضل لي خارج لبنان. أبي يتكلم كثيراً ويستعمل عبارات لا أفهم ماذا تعني. قبل ثلاث سنوات أخذني في رحلة طويلة إلى الجنوب ليعرّفني إلى ضيعتي حولا التي كانت تحتلها اسرائيل. شَرَحَ لي أنّ أصولي من هنا. أشار إلى الوادي عند سفح التلّة وحكى لي أن جدّته تركت ابنتها «تيتا عفيفة» هناك وهي طفلة لأنها خافت أن يقتلها الإسرائيليون. إنهم الأشرار في القصة، ختم كلامه.
إلى جود،
الرضيع الذي يبكي في الطابق العلوي ذكّرني بك. كنت قد أوصلتك قبل قليل وارتميتُ منهكاً على الأريكة. لاحظتَ توتّري وأنا أركض لإيصالك إلى المطار. حين طيّبتُ خاطرك بالكلام والكثير من العناق والآيس كريم. ذكّرني بك حين استقبلتك إلى الضوء. حين أعددتُ حمّامك الأول. والحفاضات السبعة التي رميتها وأنا مصرٌّ على إلباسِك واحداً في المرة الأولى. الأحد عشر طابقاً التي صعدتها بك وأغراضك حيث منزل جدّيك في الضاحية الجنوبية قبل الذهاب إلى الوظيفة لأن الكهرباء كانت مقطوعة ولا تزال. انتظار باص المدرسة. إعداد الطعام. دَرسُنا سوية. اللعب في الحمام. عصبيتي الزائدة وصوتي العالي. خوفك وبكاؤك. وقصّة بلا خاتمة سعيدة قبل النوم إذ أغفو سريعاً على سريرك.
الرضيع الذي يبكي في الطابق العلوي ذكّرني كيف هرعنا بك إلى المشفى حين انقطع نفسك ونُيِّمت لثلاثة أسابيع بعدما حَشَروا في حنجرتك الطريّة أنبوباً بلاستيكياً. هيّأونا للأسوأ، هذا لو حصل أنك لم تَعد من غيبوبتك. ولكن ها أنت ذا رجل صغير يَقِظ بإثنتي عشرة سنة. أسمر مهيوب تُواعد حلوة وتزمجر خجلاً حين أسألك «شو كيفها...؟». أمّا اليوم، فأنت بعيدٌ. يقف في المنتصف بيني وبينك عدوان إسرائيلي، وتأشيرة سفر وبداية جديدة من الصفر أسعى إليها وأنا في منتصف العمر؛ يحولون بين لقائنا مجدداً في المستقبل القريب. ويمنعون عودتك إلى منزلك ومدرستك وقطتك وحقّك في عيش كريم مع أترابك. أُعذرْني لأنّي حين قذفتُ بك خارج هذا البلد الحقير الملعون، حَرصتُ على ألا يفلت جواز السفر من يدك كي لا تعود. كان عليّ ترحيلك باكراً كي لا تضطر لانتظار دوركَ في الطابور للصعود على زورق يمخر عباب البحر، أو أن أضعك تحت فيء شجرة كما فعلت مريم مع «تيتا عِفّو» فلا تنجو.